Cala Hamish Sira

Taha Husayn d. 1392 AH
157

Cala Hamish Sira

على هامش السيرة

Genres

وكان خالد يذكر ما ألف من الحرب في بلاد العرب، وما ألف من الغزوات التي شهدها. وكان يذكر ما كان الناس يتحدثون به عن هول هذه المواقع، فيبتسم ابتسامة فيها العجب وفيها الرضا. وأكبر الظن أنه كان يوازن بين تلك المواقع اليسيرة وبين هذه الموقعة الهائلة التي لم ير عربي مثلها قط. فقد كانت أكبر جيوش العرب حين يحارب بعضهم بعضا لا يكاد يتجاوز أحدها الألف أو الآلاف. فلما زحف النبي على مكة بعشرة آلاف من المسلمين أكبرت العرب ذلك وهابته هيبة شديدة. ولم تكد قريش ترى مقدم هذا الجيش حتى استحالت كبرياؤها فأصبحت تواضعا وطاعة، وإذا النبي يسأل قومه: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» فلا يدرون كيف يجيبون. فإذا عرفوا أنه العفو قالوا: «أخ كريم وابن أخ كريم.»

ولما بلغ جيش النبي يوم حنين عشرتين أو ثلاث عشرات من الألوف ظنت العرب أن الجيوش لن تبلغ مثل هذا العدد آخر الدهر. وهذا خالد يقود جيشا للمسلمين يبلغ العشرات الكثيرة من الألوف إلى جيش من الروم يبلغ العشرات الكثيرة من الألوف.

وقد تغيرت الحرب فلم تصبح كرا وفرا ومبارزة ومناجزة، وإنما هي زحف الجبال إلى الجبال، واختلاط الأرض بالسماء. فلما ملأ خالد رحمه الله عينيه من هذا المنظر الرهيب عاد إلى مجلسه في سرادق الأمير، وقد ذكر أن عظيما من عظماء الروم قد انحاز إليه، وأنه سيلقاه ويسأله عن شأنه. ولم يكد يستقر في مجلسه حتى أذن للعظيم الرومي، فأدخل عليه، وإذا شيخ جليل قد تقدمت به السن لولا بقية من نشاط وفضل من قوة، وإذا هو يحيي خالدا تحية الإسلام في عربية فصيحة يلتوي بها لسانه بعض الشيء. فيرد عليه خالد تحيته بمثلها. ثم يسأله: «أتتكلم العربية أيها الشيخ أم هي تحيتنا تعلمتها لتلقانا بها لقاء حسنا؟» قال الشيخ: «أصلح الله الأمير! فإن لي بالعربية عهدا، وما أظننا نحتاج إلى ترجمان.» فأجلسه خالد إلى جانبه محتفيا به مقبلا عليه، ثم أشار إلى من حوله فانصرفوا، والتفت إلى الشيخ كأنه ينتظر أن يبدأ بالحديث. قال الشيخ: «أصلح الله الأمير! إنك لم تخل إلى رجل من الروم قد أقبل يسعى إليك فيما يسعى فيه الساسة الذين يخالفون عن رؤسائهم وساداتهم إلى العدو ليدلوه على عوراتهم، ويظهروه على ما دبروا من الكيد لرؤسائهم والانحياز إلى المغيرين، إنما تخلو إلى مسلم قد شهد فجر الإسلام حين انبثق في البطحاء من أرض الحرم، فآمن به حين استيقن أنه الحق قد جاء من عند الله. ثم فر بما علم من ذلك فهاجر إلى مكة إلى وطنه من بلاد الروم يهيئ قومه لمثل هذا اليوم الذي نحن فيه. وقد مضت أعوام وأعوام وأنا أستقصي الأنباء وألتقط الأخبار وأعلم ما يحدث في مكة وفي يثرب من الخطوب. حتى إذا كانت وقعة مؤتة علمت أن الشمس قد أخذت تبلغ أرضنا، وأن نور الله قد أخذ يشرق في آفاقنا. ثم ها أنتم هؤلاء قد أقبلتم مظفرين، فجئت لألقاك بالبشرى، ولأنبئنك بأن لا بأس عليكم بعد هذه الموقعة، فلن يثبت لكم العدو في مدينة أو قرية أو مكان ما في هذه الأرض ولا في غيرها مما يجاورها من الشام ومصر، ولن تجدوا من الناس بعد انهزام الجيوش عنكم إلا مودة ومعونة وحسن لقاء. فاقدموا عليهم كما تقدمون على الصديق لا كما تقدمون على العدو، فسيدخلون في دين الله أفواجا وستخلص لكم نفوس الذين يستمسكون بدين آبائهم.»

قال خالد: «ألم تنبئني أنك شهدت فجر الإسلام حين انبثق بمكة؟!»

قال الشيخ: «نعم! وكنت ثاني اثنين كانا يرقبان مطلع الفجر؛ فأما أحدنا فأقام بمكة ومات فيها. وأما الآخر فأقبل إلى هذه الأرض يبشر الناس بمطلع الفجر.»

قال خالد: «فمن ذاك الذي مات بمكة؟» قال الشيخ: «ابن عمك ورقة بن نوفل.»

قال خالد: «وأنت من تكون؟» قال الشيخ: «أنا من أكون! لست أدري أيدلك اسمي على شيء! ولكن أباك كان يعرفني حق المعرفة ويبغضني أشد البغض، وابن عمك كان يعرفني حق المعرفة ويحبني أشد الحب.»

قال خالد: «أي أبناء عمي؟» قال الشيخ: «عمرو بن هشام بن المغيرة، كنا نسميه أبا الحكم.» قال خالد: «ثم سميناه بعد ذلك أبا جهل.» قال الشيخ: «وقد صرعه البغي والحسد يوم بدر.»

قال خالد: «نعم! صرعه البغي والحسد؛ صرعه البغي والحسد وغرور الشيطان.» وسمع خالد هائعة

8

Unknown page