فيجيبه أشراف الناس وذوو الأسنان والمكانة فيهم: «إن ما تقوله لحق يا أبا الحكم، ولكن الأمور لا تؤتى بهذا العنف ولا تعالج بهذه العجلة. إن لمحمد فينا لمكانة وشرفا، وإن له من قومه لعزا ومنعة، وإن لبني هاشم وبني عبد مناف لبأسا وقوة، فما ينبغي أن نعرض لمحمد بمكروه حتى نعذر فيه، وما نحب أن تسفك قريش دماءها بأيديها، وإنما ندعو محمدا فنقول له ونسمع منه لعلنا نصرفه عن هذا الذي هو ماض فيه، فإن لم يقبل منا رأينا فيه رأينا.»
فيرفع عمرو بن هشام كتفيه ساخرا، ويهز رأسه مستهزئا ويقول: «شيوخ قريش وذوو الأسنان والأحلام فيها! ويل لقريش من الأسنان والأحلام!» فلما أكثر من ذلك وأثقل على عمه الوليد وعلى مشيخة قريش قال له عمه: «على رسلك يابن أخي! إنك لتتمادى في الجهل من يوم إلى يوم، وإن وجهك هذا الرائع، ولسانك هذا الذرب الفصيح لن يغنيا عن قريش شيئا إذا قطعت أرحامها وسفكت دماءها، ولم ترع لهذا البيت مكانه، ولا لهذا الحرم حقه.»
ثم اجتمع الملأ من قريش فدعوا رسول الله إليهم، فلما جاءهم قالوا له فأكثروا القول، عرضوا عليه المال فرد عليهم المال، وعرضوا عليه الشرف والسيادة فرد عليهم الشرف والسيادة، وعرضوا عليه الملك والسلطان فرد عليهم الملك والسلطان، وعرضوا عليه الطب إن كان مريضا فرد عليهم الطب وقال: ما أنا بمريض. ثم قال لهم رسول الله فدعاهم إلى الله، وحبب إليهم الخير، وزين لهم البر، وبين لهم أن آلهتهم لا تغني عنهم من الله شيئا، ووعدهم شرف الدنيا والآخرة إن صدقوه، وأنذرهم خزي الدنيا والآخرة إن كذبوه، فتفرقوا عنه ولم يظفروا منه بشيء، ولم يظفر منهم بشيء، ولكنهم انصرفوا عنه وفي قلوبهم من الخوف والفرق ما لا يكادون يخفونه، وانصرف عنهم وفي نفسه من الثقة واليقين ما يملأ قلبه إيمانا وتثبيتا.
واستأنف عمرو بن هشام سعيه فيهم وإلحاحه عليهم، يغريهم بمحمد مجتمعين، ويغريهم به متفرقين، يسعى إليهم في أنديتهم ويلم بهم في بيوتهم، فيناجيهم في بغض محمد ويخوفهم منه ويؤلبهم عليه. وأبو مرة من ورائه يقويه ويشد أزره، ويساقيه البغض والحسد لمحمد حين يخلوان إذا تقدم الليل. حتى زار ذات يوم أمية بن خلف فرآه محزونا مكروبا، قال: «ويحك أبا علي، إني لأراك كاسف البال كئيب النفس.»
قال أمية: «إن كنت لصادقا يا أبا الحكم في كل ما خوفتنا من محمد وما صورت لنا من أمره.»
قال عمرو وهو يبتسم: «وما ذاك يا أبا علي؟» قال أمية: «لقد دخل بيتي من محمد شر.» قال عمرو وهو يضحك: «أوأصابك الغيث؟» قال: «نعم! هذا عبد من عبيدي بلال بن رباح تبع محمدا، فهو يصلي كما يصلي محمد، ويدعو بدعوته ويعتل علي فيما لم يكن يعتل علي في مثله من قبل، ويوشك أن يفسد علي رقيقي كلهم إن استأنيت به.»
قال عمرو: «ولم تستأني به؟» قال أمية: «إنها الرحمة والبقيا يا أبا الحكم، فما تعودت قتل الرقيق. وإني لأرجو أن أستصلحه فيعود علي منه نفع.»
قال عمرو: «لا تقتله ولكن عذبه حتى يثوب إلى ما تحب، وحتى يكون مثلا لغيره من غلمانك وإمائك ومواليك.»
ومنذ ذلك اليوم بدأت محنة بلال رحمه الله، فسامه أمية من العذاب ألوانا وألوانا، وكان يأتي به في اليوم القائظ وقد أجاعه وأظمأه حتى يكاد يهلك فيلقيه على الأرض قد قيدت وشدت يداه إلى ظهره، ويعمد إلى الحجر الضخم الثقيل فيضعه على صدره ويقول: لتهلكن أو لترفضن ما تابعت محمدا عليه؛ فلا يزيد بلال على أن يقول: «أحد! أحد!» حتى مر أبو بكر رحمه الله بأمية ذات يوم وهو يصنع ببلال ذلك، فرق أبو بكر، وكان رقيقا، ونهى أمية فلم ينته، فاشترى بلالا وأعتقه. وسن أبو بكر رحمه الله هذه السنة. فكان بينه وبين عمرو بن هشام صراع رائع حقا، يغري عمرو بن هشام سادة قريش بتعذيب من يسلم من رقيقهم، ويعلم أبو بكر ذلك فيسعى في شراء هؤلاء الرقيق وإعتاقهم ليعبدوا الله أحرارا، حتى أنفق في ذلك صفوة ماله وكان غنيا.
وقد رأى عمرو بن هشام أن تعذيب الرقيق يسوء محمدا وأصحابه، ولكنه لا يمنع كلمة الله أن تنتشر، ولا دين الله أن يظهر، فأخذ يغري أشراف قريش بفتنة الأحرار من المسلمين وتعذيبهم، حتى يرجعوا عن دينهم، وحتى يكونوا مثلا يخوفون بهم غيرهم من الناس. ولكن هذه الفتنة وإن شقت على محمد وعلى أصحابه لم تمنع كلمة الله أن تنشر، ولا دين الله أن يظهر. وجعلت الأمور تجري في مكة على هذا النحو، يشتد عمرو بن هشام وأضرابه في إيذاء محمد وأصحابه والإغراء بهم، فلا يزيد ذلك كلمة الله إلا انتشارا، ولا يزيد ذلك دين الله إلا ظهورا. وقد عرف الناس في تاريخهم كله أن لن يخدم رأي ولا دين بمثل اضطهاد أصحابه وفتنتهم، وقد كثر أصحاب محمد من الرجال والنساء، من الأغنياء والفقراء، من الأحرار والرقيق، وقد ائتلفوا حوله يلقاهم مصبحا وممسيا، فيدعوهم ويعلمهم ويبشرهم، وينذرهم، يجتمعون حوله مخلصين له مصدقين لما جاء، ويتفرقون عنه داعين إلى ما يدعو إليه من الخير، ثم يعودون إليه وقد زاد عددهم الرجل أو الرجال. وعمرو بن هشام لا يزداد لذلك إلا غيظا، حتى ساء خلقه وقبحت سيرته واستهتر بالدعوة إلى الفتنة والإغراق فيها، فعرف بين المسلمين بأبي جهل؛ لأنه صورة للجهل والحمق والغضب الذي لا يبقي على شيء. وكان أبو جهل مع ذلك جبانا رعديدا إذا اتصلت أسبابه بأسباب محمد من قريب أو بعيد. كان يبغض محمدا بغضا مروعا لم يعرف الناس مثله، وكان يخاف محمدا خوفا يضحك منه أحب الناس له وأعطفهم عليه. وكان أبو جهل على ذلك كله قد حرم التوفيق في كل ما كان يأتي من الأمر، لحكمة أرادها الله وأمر قدره؛ فكان يقدم على الأمر يظن أن فيه الإيذاء لمحمد والنيل منه والغض من قدره والصد عن سبيله، فلا يكاد يأتي ما يأتي حتى ينقلب عمله خيرا لمحمد. لقي محمدا ذات يوم فأفحش له بالقول وآذاه في نفسه إيذاء شديدا، وانصرف عنه رسول الله لم يقل له شيئا؛ لأن الله قد أدبه بأن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين. وشهدت ذلك مولاة لعبد الله بن جدعان، فأنبأت به حمزة بن عبد المطلب مرجعه من الصيد، فحمى حمزة لما سمع، ومضى إلى المسجد حتى غشي أبا جهل في ناد من أندية قريش فضربه بقوسه فشجه شجة فاحشة. وهمت مخزوم أن تغضب لفتاها، فيقول أبو جهل لقومه مستخذيا: «دعوا أبا عمارة فقد أفحشت لابن أخيه.» وينصرف حمزة من ساعته فيأتي ابن أخيه محمدا فيسلم ويصبح أسد الله.
Unknown page