Cala Hamish Sira

Taha Husayn d. 1392 AH
151

Cala Hamish Sira

على هامش السيرة

Genres

قال القوم في صوت رجل واحد: «هذا والله الرأي يا أبا الحكم لا أرى غيره، لنسعين ولنستقصين، ولنسألن عن أمر محمد القريب والبعيد.»

وتفرق القوم وفي صدر كل واحد منهم هم ثقيل. ولا يكاد عمرو بن هشام يبعد عن المسجد قليلا حتى يرى حليفه ذاك الأعرابي فجأة، لا يدري أنجم له من الأرض أم هبط عليه من الجو، ولكنه يراه وقد وضع يده على كتفه وهو يقول: «وريت

6

بك زنادي؛ لقد سدت قومك وملكت أمرهم، فلن يخالفوك في شيء منذ اليوم.»

7

وأقام رسول الله في قومه دهرا لا يعرض لهم بشيء يكرهونه، ولا يلقونه بشيء ينكره، وإنما يدعوهم إلى كلمة الحق، ويذيع فيهم البر والمعروف، ولا يجلس إلى أحد منهم إلا قال له خيرا أو دعاه إلى خير، وقريش ترى منه ذلك، فتحمد حبه للعافية، وسعيه بالخير، ولقاءه للناس بما يرضون. وقريش تسمع دعوته إلى الله، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فيستجيب له من أشرافها القليلون، ويستجيب له الكثيرون من الفقراء والمستضعفين وأهل البؤس والضر. وهو يسوي بين أولئك وهؤلاء في حبه لهم وبره بهم وعطفه عليهم، لا يفرق منهم بين الغني والفقير ولا بين ذي النفر والقوة ومن لا عون له ولا ظهير، إنما هم جميعا إخوانه وأبناؤه، قد أحبهم في الله والخير، وأحبوه في الله والخير. والملأ من قريش يرون ذلك فيعرفون بعضه وينكرون بعضه: يعرفون دعوته إلى البر والمعروف، وسعيه بين الناس بالخير، ويعرفون أنه لا يؤذيهم ولا يريدهم بسوء، ولكنهم ينكرون إيثاره للصغار والبائسين وتتبعه لهم بالود والبر والتكرمة، ويقول بعضهم لبعض: لئن اتصل هذا من محمد ليفسدن علينا الناس، وليطمعن فينا ضعفاءهم، وليصبحن أحدنا فإذا عبيده وإماؤه وأتباعه ومواليه يطلبون إليه أن يلقاهم من الخير والبر والمساواة بمثل ما يلقاهم به محمد، ويومئذ لا يستقيم لقريش أمر. ثم يقول بعضهم لبعض: ولكن محمدا لم يبغكم شرا، ولم يقدم إليكم مساءة في عادة أو دين، إنما هو يأتي المسجد كما تأتونه، ويطوف بالبيت كما تطوفون به، ويسعى في أمره كما تسعون في أموركم، ولكن له مع ربه ومع الناس مذاهب لا تذهبونها، وسيرة لا تسيرونها، فلا سبيل لكم عليه حتى يباديكم بما تكرهون. فيغيظ ذلك منهم عمرو بن هشام ويلقاهم بالشدة والحدة والمنكر من القول، يقول: «والله يا معشر قريش إنه للعجز، وإنكم لتخافون من ظلالكم. إنكم لتكرهون من محمد مثل ما أكره، ولكنكم تخافون أن تبادوه بما في نفوسكم فيباديكم بما في نفسه، فيظهر الشر بينكم وبينه، ويغضب له بنو هاشم وبنو عبد مناف، فتكون الحرب. وما عرفت أبغض منكم للحرب، ولا أشد منكم لها تهيبا ومنها إشفاقا.»

يقول قومه: «لا تجهل أبا الحكم! فما عرفناك جهولا، وما علمنا أن بينك وبين محمد شرا.» فيجيب: «واللات والعزى ما أنا بالجهول! ولقد أسرفت على نفسي كما أسرفتم على أنفسكم في الحلم، وإن بيني وبين محمد للشر كل الشر، وإن بينكم وبينه للشر كل الشر، ولكني أرى ما لا ترون، وأعلم ما لا تعلمون.»

فيضحك عمه الوليد بن المغيرة ويقول: «ويح قريش من هذين الفتيين! أحدهما يأتيها بأخبار السماء، والآخر يرى ما لا ترى ويعلم ما لا تعلم. والله ما أدري ماذا ألم بهذا الحرم وقد كان آمنا!»

وفي ذات يوم امتلأت مكة بحديث كان له في قلوب الناس جميعا وقع غريب؛ فقد تحدثوا أن رسول الله خرج من صمته ودعا إليه أشراف قريش، فلما اجتمعوا إليه عرض عليهم دينا جديدا فيه التوحيد، ووعدهم إن سمعوا له واستجابوا لدعوته أن يكون لهم شرف الدنيا والآخرة، وأنذرهم إن أبوا عليه وأعرضوا عن دعوته أن يستقبلوا عذابا مبينا مهينا يلقون صدرا منه في حياتهم الأولى، ثم يخلدون فيه بعد الموت إلى غير غاية ولا أمد. وتحدثت قريش بأن عمه أبا لهب كان أول من رد عليه فكذبه وآذاه، وتفرق الناس عنه ولم يقل له أحد غير عمه شيئا.

تحدثت بذلك قريش نهارها كله وشطرا من ليلها، ثم أصبحت فتحدثت به، ثم أمست فخاضت فيه، ثم جعلت لا تصبح ولا تمسي إلا كان محمد لها حديثا. وجعل عمرو بن هشام يلم بأندية قريش في المسجد وبمجالسهم في الدور والمتاجر، ويخرج إلى الظواهر فيلم بأندية البادين منهم، يقول لأولئك وهؤلاء: «أترون يا معشر قريش إلى محمد وقد ألقى القناع، ودعاكم جهرة إلى ما كان يدعوكم إليه سرا؟! وإني أحلف باللات والعزى لو أخفتموه حين كان يذيع مقالته فيكم خفية لما اجترأ على أن يفجأ الملأ منكم بما فجأكم به، فخذوا حذركم وروا رأيكم، واجتهدوا لأنفسكم. فكأني بمحمد قد أفسد عليكم ضعاف الناس في مكة، وكأني به قد أفسد عليكم العرب وأغواهم بكم وأطمعهم فيكم. وايم الله لتقتلن محمدا أو ليقتلنكم جميعا.»

Unknown page