وكانت أجبال مكة قائمة حولها ساهمة واجمة في يوم شديد القيظ، كأنما أدركها منه ما يدرك الناس فيذهلهم عن أنفسهم وعما حولهم من الأشياء. وكانت مكة بين هذه الأجبال ساكنة سكونا مخيفا لا حركة فيه، هادئة هدوءا مفظعا لا نشاط فيه، قد استقرت بين هذه الأجبال، واستقر فيها كل شيء، فما تجري فيها نسمة، وما يغني فيها طائر، وما تصوت فيها حشرة، وإنما هي جامدة هامدة تصب فيها أشعة الشمس المحرقة صبا، وتنعكس في هذه الأشعة المحرقة ألوان مختلفة من هذه الصخور القائمة من حولها، حتى ليخيل إلى من كان يمكن أن يراها في ذلك الوقت أنها طست يصب فيها معدن مذاب يصهر كل ما مسه من شيء. وفي هذه المدينة الجامدة الهامدة المحرقة المشرقة كان رجل رومي يسعى ثقيل الحركة بطيء الخطو متخوفا يلتفت عن يمين وشمال في كثير من الحذر، كأنما يخشى أن يرى مكانه أحد. وكان يسعى مجهودا مكدودا شديد الإعياء قد ألهبته هذه الشمس المهلكة، ولكنه على ذلك يسعى إلى غايته لا يبالي تعبا ولا نصبا، حتى إذا بلغ دار ورقة بن نوفل رأى غلاما قائما بالباب يرقب مقدمه، فلما رآه مقبلا تلقاه بابتسامة صامتة، ثم سعى بين يديه حتى أدخله الدار وأغلق من دونهما الباب، ثم سعى بين يديه ينقله من دهليز إلى دهليز ومن حجرة إلى حجرة، يسعى لا يقول شيئا، والرومي وراءه يمشي لا يقول شيئا، حتى انتهيا إلى حجرة في أقصى الدار، فلما دخلاها أغلق الغلام الباب من دونهما، ثم أحدث حسا فظهر ورقة كأنما كان في مخبأ. فلما رأى الرومي حياه بالإشارة ثم قال: «اتبعني يا نسطاس.» ثم التفت إلى الغلام وقال: «أما أنت فمكانك حتى نحدث لك أمرا.» وهبط ورقة يتبعه نسطاس في سلم كان في زاوية من زوايا الغرفة، فلما انتهيا إلى أسفل السلم أمعنا في نفق طويل ضيق ولكنه جعل يتسع قليلا قليلا كلما أمعنا فيه حتى انتهيا إلى مجلس حسن، فلما بلغاه جثا كل من الرجلين على ركبتيه وأخذا يصليان بلغة غير عربية صلاة طويلة. فلما فرغا من صلاتهما مد ورقة يده إلى قدح فيه شيء من خمر فقرأ عليه كلاما ثم قدمه إلى الرومي، فشرب منه ثم رده إلى ورقة فشرب ما كان قد بقي فيه. ثم تحول الرجلان عن مكانهما ذاك إلى حشية قد ألقيت على الأرض فجلسا عليها وبين أيديهما شراب أقبلا عليه صامتين. ثم قطع نسطاس الصمت قائلا: «إنه الفجر يا ورقة.» قال ورقة: «نعم، إنه الفجر يا نسطاس! والفجر الصادق هذه المرة، فقد طالما كذبتنا نجوم الليل.» قال نسطاس: «فقد أخذ الليل ينجلي.» قال ورقة: «ولكنه ينجلي في بطء شديد.» قال نسطاس: «وقد آن لي أن أرحل بالخبر إلى أصحابنا قبل أن تشرق الشمس.» قال ورقة: «أو قبل أن يرتفع الضحى.» قال نسطاس: «بل قبل أن تشرق الشمس فالخير في البكور. وقد كان شاعركم يحب الغدو مع الطير، فلنكن عربا ونحن نودع أرض العرب.» قال ورقة: «ولكنك عجلت على نفسك أمس يا نسطاس.» قال نسطاس: «بما حدثت به عمرو بن هشام؟» قال ورقة: «نعم.»
قال نسطاس: «لا ترع، فقد كان يجب أن نؤذن قريشا بمطلع الفجر، وأن نهيئها لما سيغمرها من نور، ونعدها لما تضمر لها الأقدار مما تحب وما تكره. وما أعرف أحدا كان أقدر على أن يهيئ قريشا لهذا الأمر من صاحبك هذا؛ فإنه فتى طموح شديد الطموح، مغرور يكاد يقتله الغرور، حسود يأكل الحسد قلبه كما تأكل النار ما يلقى فيها من الحطب، وهو على ذلك ذكي القلب، فصيح اللسان، أثير عند قومه. وما أرى إلا أنه سيكون أشد الناس عداوة لهذا النور الجديد، وما أرى إلا أن عداوته ستزيد هذا النور انتشارا كلما أمعنت في الشدة والحدة. وكذلك الأقدار يا ورقة تدبر للناس أمورهم كما تحب هي لا كما يحبون هم. نور يخرج من ظلمة، ثم ما تزال الظلمة تحاربه وتغالبه حتى يقهرها. أرأيت إلى صاحبنا هذا الذي أشرق الفجر في قلبه وسيشرق على الناس من فمه كيف أقبل على هذه الدنيا وكيف استقبل أيامه فيها؛ يولد أبوه وهو أحب الناس إلى أبويه، ولكنهما يفتنان فيه فتنة لم يعرفها الناس منذ إبراهيم، حتى إذا خلص الفتى من الفتنة وقرت به عينا أبويه خرج إلى الشام فلم يعد من رحلته تلك، وإنما دفن في حفرة بيثرب. لم يولد لنفسه، وإنما ولد لينقل ابنه إلى الأرض، فلما أدى أمانته مضى لسبيله. وتلد آمنة ابنها وتقوم عليه، حتى إذا تقدم به الصبا قليلا واستغنى عن خدمة الأمهات مضت أمه إلى حيث مضى أبوه، وظل الصبي يتيما عائلا ضالا، لا ينتظر أحد له خيرا، ولا يظن به أحد خيرا، ولا يحفل به أحد، ولا يلتفت إليه أحد، إلا الذين أرادت الأقدار أن يعرفوا بعض شأنه وأن يقوموا ببعض أمره، لا يتكلفون في ذلك إلا أيسر الأمر وأهونه؛ لأن الذي اختارته الأقدار لمثل هذه المهمة العظمى لا ينبغي أن تكون للناس عليه يد، ولا يرعاه ويكلؤه إلا من اصطفاه لما يريد.»
قال ورقة: «هو ذاك يا نسطاس. وما أكثر ما بحثنا وأمعنا في البحث! وما أكثر ما استقصينا وغلونا في الاستقصاء! نبعد ومحمد بين أظهرنا. نلتمس مشرق النور في أقطار الأرض ومشرق النور يسعى بين أيدينا، حتى إذا تتابعت الآيات وتظاهرت الأدلة ظننا في غير قطع أننا قد اهتدينا إلى ما كنا نبحث عنه، وجعلنا نرقب محمدا منذ خمس عشرة سنة منذ عاد من الشام. أتذكر يا نسطاس؟» قال: «نعم.» قال ورقة: «ما زلنا نرقبه منذ ذلك اليوم والآيات يتبع بعضها بعضا، والأدلة يشد بعضها أزر بعض حتى جاء الحق وظهر نور الله.»
قال نسطاس: «هو ذاك! ولكن بماذا أرحل إلى أصحابنا؟» قال ورقة: «بما علمت.» قال نسطاس: «فإني لم أعلم من ذلك إلا خلاصته، وقد أحب أن أحمل إلى أصحابنا تفصيله. وقد أنبئت أن عندك من هذا العلم كله، فأعد علي من ذلك ما تعلم، تقول أنت بعربيتك وأكتب أنا بيونانيتي، حتى إذا بلغت أرض الروم أفضيت بالأمر إلى أصحابنا فأخذوا له ما ينبغي من الأهبة، وتهيئوا له كما ينبغي أن يتهيئوا لهذا الأمر العظيم.»
قال ورقة: «يا ليتني أستطيع أن أرتحل معك، وأن أشارككم فيما ستبذلون من جهد وما ستحتملون من مشقة لتعدوا بلاد الأعاجم لاستقبال الشمس المشرقة حين يبلغها نورها.»
قال نسطاس: «ولكن عليك أن تقيم حيث أنت، وعلي أنا أن أعود إلى بلاد الروم، بهذا أمرنا، ولا بد من أن نذعن لما أمرنا به. فاقصص علي بدء حديثك فقد هيأت كل شيء للرحيل، ويجب أن أترك مكة قبل أن تغرب الشمس وأن يأتي فتيان قريش إلى حانة نسطاس فلا يجدوا فيها نسطاس، ولا يجدوا فيا خمرا ولا غناء ولا نساء، وإنما يجدون دارا خالية بلقعا يبابا، كما سيجدون دورا لقومهم حين يرتفع ضحى هذا النور الجديد.»
قال ورقة: «فإن ابنة عمي خديجة قد أقبلت علي ذات يوم فأنبأتني بالنبأ تعيد علي حديث زوجها، وقد حفظته عنها كما سمعته منها، فإن شئت فاكتب.» فأقبل نسطاس على رق يكتب فيه. وجعل ورقة يقول: «قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» يقول نسطاس: «يا لها كلمة حلوة المجرى على اللسان، حسنة الموقع في القلب، خالدة في الدهر ما بقي الدهر!» قال ورقة: «أتكتب يا نسطاس؟» قال نسطاس: «نعم.» قال ورقة: «قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : جاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني
3
Unknown page