فضربت أم الفضل يدا بيد وصاحت: «ماذا تقول يا محمد؟!»
فأخذ محمد ولم يجب ثم قال: «في أي الطرق سارت؟»
قالت: «سارت في هذا الطريق المؤدي إلى المدينة.»
فتذكر محمد الأشباح التي رآها خارج مكة، وقال: «لقد لقيتها والله في طريقي، يا ليتني اعترضت ذلك الركب وهي معهم! ولو كانت في عافيتها لما خفت عليها بأسا ولكنها مريضة فأخشى إن أحرجوها أن تموت غيظا! لا حول ولا قوة إلا بالله!» وصمت برهة يفكر فلم يستطع إدراك سر الأمر، ثم هب من مكانه وقال: «أستودعك الله»، وخرج.
قالت: «تمهل يا محمد.» قال: «إن الوقت ثمين، دعيني أتعقب الركب الذين رأيتهم في طريقي لعلي أظفر بها معهم.» ولم يكد يخرج من الباب حتى وقف بغتة كأن شيئا اعترضه، فعاد إلى أم الفضل وسألها عن الحملة ووجهة مسيرها، فقصت عليه خبرها فوعى ذلك في ذهنه وخرج مسرعا يلتمس الطريق الذي رأى الركب سائرين فيه.
فمر بخادمه في منزل أخته فرآه غارقا في نومه من شدة التعب وقد أرسل الجمال إلى المربط للشرب والعلف، فأيقظه وأمره أن يتهيأ للرجوع فنهض وعيناه لا تنفتحان من النعاس. وعلم أهل المنزل بمجيء محمد فجاءه قيم الدار يدعوه إلى الطعام فاعتذر بأنه لا يستطيع المكث، ولما ألح عليه قيم الدار وأظهر له أن الجمال تحتاج إلى الراحة اقتنع وأكل قليلا مما أعدوه وهو يحث الخادم للتأهب للمسير. وما لبث أن ركب وسار على أسرع ما يكون، وكان القمر قد تكبد السماء وصفا الجو فالتمس الطريق الذي ظن أن الركب ساروا فيه، فقضى برهة لا يتكلم ولا يسمع صوتا إلا جعجعة الجمال. وانتصف الليل والخادم يتوقع أن يأمره بالنزول للمبيت فلم ير إلا حثا على الإسراع، ثم رآه يسلك طريقا غير الذي جاءوا فيه فنبهه إلى ذلك مخافة أن يكون قد ضل السبيل، فأجابه بأنه يعرف الطرق ولا يحتاج إلى تنبيه، فسكت وظل سائرا حتى بلغا مكانا يتشعب فيه الطريق إلى شعبتين؛ إحداهما تتصل بطريق المدينة والأخرى تنتهي إلى طريق البصرة، فوقفا هناك صامتين. •••
لم يجرؤ الخادم أن يستفهم من محمد عما يريد وإن كان قد رابه قلقه وغضبه، فلما وقفا في مفترق الطرق وكان الرجل من النباهة والذكاء على جانب عظيم عارفا بالأسفار خبيرا بمسالك البر حاذقا في قيافة الأثر؛ تشجع وسأله: «هل من خدمة أقدمها لمولاي؟»
وكأن محمدا أفاق من سبات، فانتبه وتذكر مهارة خادمه في قص الأثر فقال في نفسه: «لعله ينفعنا».
وكان الخادم كهلا عركه الدهر، قضى معظم أيامه في الأسفار وتحمل مشاقها، وكان طويل القامة سريع الحركة لا يبالي بالتعب ولا يخاف الموت، فقال له محمد: «هل لك في قيافة الأثر يا مسعود؟»
قال: «إني من أمهر القائفين يا مولاي.»
Unknown page