Cadd Tanazuli
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
Genres
بعد دقيقة واحدة من الإطلاق، ظهرت خلال النظارات المكبرة نقطة حمراء صغيرة في مقدمة الصاروخ - الذي كان قد بلغ حينئذ مسافة عشرين ميلا تقريبا - حيث ارتفعت درجة حرارة مقدمته من جراء احتكاكه بالغلاف الجوي، وأرسلت أجهزة التحكم الأرضية إشارة توقف ، واختفت ألسنة اللهب، واختفى كذلك ذيل الدخان. وكانت ثمة نقطة براقة لامعة لا تزال تظهر عند ذيل الصاروخ، حيث واصلت فوهته السطوع من جراء الحرارة البيضاء.
كان فالتر دورنبرجر، مدير المشروع، يراقب المشهد مع الكولونيل ليو زانسن، مدير مركز بينامونده، وكتب دورنبرجر لاحقا يقول: «تركت نظارتي المكبرة آخذا نفسا عميقا. كان قلبي يدق بشدة. بكيت فرحا، ولم أستطع التفوه بكلمة لبرهة من الوقت؛ إذ كانت تنتابني مشاعر جياشة. والتفت إلى الكولونيل زانسن لأراه يمر بالحالة نفسها؛ كانت عيناه مغرورقتين، ومد يديه إلي مصافحا، فتلقيتهما في حرارة. ثم غمرتنا مشاعرنا بسرعة، فإذا بنا نصيح فرحا، ثم يحتضن كل منا الآخر كالصبية حين يعتريهم حماس عارم.»
في وقت لاحق من ذلك اليوم، ألقى دورنبرجر خطابا قصيرا على بعض زملائه، قال فيه: «نحن أول من يطلق صاروخا بسرعة 3300 ميل في الساعة؛ ومن ثم، فقد أثبتنا أنه من الممكن تماما بناء صواريخ أو مركبات موجهة تفوق سرعتها سرعة الصوت، ونجحنا في ذلك من خلال نظم التحكم الآلي، ووصل الصاروخ الذي أطلقناه اليوم إلى ارتفاع 60 ميلا تقريبا.
غزونا الفضاء بصاروخنا؛ وبرهنا بذلك على أن الدفع الصاروخي إجراء عملي في رحلات الفضاء. وما دامت الحرب مستمرة، فليس أمامنا مهمة أكثر إلحاحا من الإسراع بتطوير الصاروخ كسلاح، في حين ستكون مهمتنا في أوقات السلم هي تطوير الإمكانات الفائقة لهذا السلاح التي لا نستطيع تصورها بعد، وسيكون أول شيء نقوم به إذن هو أن نعثر على وسائل آمنة للإرساء بعد الرحلة عبر الفضاء.»
2
في عملية الإطلاق الأولى، كان ثمة عدد من الأشخاص الذين قادوا هذه التطويرات، منهم من كانوا حضورا، ومنهم من كانوا مشاركين إلى حد كبير في المشروع، وكان من بين هؤلاء مدير دورنبرجر الفني، فيرنر فون براون. ولم يكن سيرجي كوروليف - الشخص الذي كان بيده أن يحدد وتيرة بحث تلك الاحتمالات - موجودا في أي مكان في ألمانيا، بل كان يعمل على مسافة 1500 ميل شرق موقع الإطلاق، وكان سجينا لدى المفوضية الشعبية للشئون الداخلية؛ الشرطة السرية في عهد ستالين .
بالنسبة إلى كوروليف، وكذلك دورنبرجر وفون براون، كان ثمة أصل مشترك في هذه المسارات التي أدت إلى مواقفهم تلك، يعود إلى أعمال مدرس الرياضيات هيرمان أوبيرت الذي كان يتحدث الألمانية. درس أوبيرت في ميونخ وهايدلبرج، ثم عاد إلى مسقط رأسه في رومانيا، حيث عاش بين مجموعة من الألمان المغتربين، واشتغل بتدريس الرياضيات في المدرسة الثانوية المحلية؛ وبعد الحرب العالمية الأولى، أصبح شديد الشغف بالصواريخ.
كان الناس يصنعون الصواريخ منذ اختراع البارود، قبل سبعمائة عام تقريبا، واستخدم أفضلها في حروب القرن التاسع عشر، حيث قدمت صورة «وهج الصواريخ الأحمر» التي ألهمت فرانسيس سكوت كي فيما بعد ليكتب النشيد الوطني الأمريكي الذي تضمن تلك العبارة نفسها. ومع ذلك، أفضت التطورات اللاحقة في المدفعية ذات القدرة الفائقة إلى تضاؤل الاهتمام بالصواريخ. وكانت نقطة البداية التي انطلق منها أوبيرت تتمثل في مبدأ بسيط وقوي، وهو: عن طريق حرق مصادر الوقود الحديثة، مثل الجازولين والأكسجين السائل، قد يتفوق أداء أي صاروخ على أداء الصواريخ التي تعمل باستخدام البارود. وتأكيدا لذلك، قدم أوبيرت توصيات تتعلق باختيارات محددة للوقود، وقاس أداءها، وقدم اقتراحات لتصميم المركبة الصاروخية التي يمكن أن تستخدم تلك الأنواع من الوقود.
ثم مضى أبعد من ذلك، مشيرا إلى أن تطبيق هذا الأسلوب سيجعل الرحلات الفضائية المأهولة أمرا ممكنا. وفي استشراف منه لما سيحدث بعد ذلك بأربعين عاما، أشار إلى أن صاروخ وقود سائل زنة 400 طن متري يمكنه نقل رائدي فضاء إلى مدار فضائي. تأثر أوبيرت بأفكار كاتب الخيال العلمي كورد لاسفيتس، فأشار إلى أن رحلات الفضاء هذه قد تؤدي إلى بناء محطة مدارية، وهو ما قد يخدم أغراض الأرصاد على ارتفاعات شاهقة واتصالات الأقمار الصناعية؛ وربما تمثل أيضا هذه المحطات قاعدة للصواريخ الأخرى، التي قد تنطلق إلى الكواكب. وكلمسة أخيرة، اقترح أوبيرت بناء عاكسات شمسية عملاقة، من أجل «الحفاظ على الطريق البحري، المؤدي إلى موانئ شبتسبرجن وشمال سيبيريا، خاليا من الثلوج من خلال تركيز أشعة الشمس عليه، ولزيادة رقعة المناطق الصالحة للسكنى في الشمال ».
على الرغم من أن أفكار أوبيرت كانت مبتكرة تماما، فقد تلاءمت مع روح العصر. في العقود الأخيرة، كان محرك الاحتراق الداخلي قد أفسح المجال أمام اختراع الطائرات والسيارات؛ وكان التوربين البخاري - وهو الاختراع المعاصر لمحرك الاحتراق الداخلي - يشجع على ازدهار صناعة الطاقة الكهربية، وأدى إلى تطورات هائلة في حجم وسرعة السفن الحربية وسفن الركاب. وكان أوبيرت يشير إلى محرك جديد، وهو صاروخ وقود سائل، ويصفه بأنه هدف جديد أمام المخترعين؛ كما كان يطرح رؤيته الشاملة لتطبيقات واسعة النطاق.
Unknown page