Cadd Tanazuli
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
Genres
كانت هذه أولى رحلات أمريكا في المدى العابر للقارات. أثبتت عمليات الإطلاق هذه أن المقدمات المخروطية القابلة للانفصال عند درجات الحرارة العالية، التي كانت أقل وزنا بكثير من المقدمات النحاسية، قادرة على تلبية احتياجات الصاروخ «أطلس». مع ذلك، لم يتسن للقائمين على تلك الرحلات العثور على المقدمات المخروطية التجريبية أو استرجاعها، وهو ما كان ينذر بمصير سيئ للفئران التي كانت على متنها. كانت الرحلات الثلاث تحمل «فأرا في إيبل»، لكنها جميعا لاقت مصير الكلبة «لايكا». على حد تعبير الممثل الساخر بيل دانا، الذي أطلق على نفسه اسم خوسيه خيمنيز: «أغلقوا الباب ... على ذلك الفأر الصغير ... لا أريد أن أتحدث عن الأمر!»
على الرغم من ذلك، بدا أن الرحلات الناجحة في شهر يوليو قد أهلت الصاروخ «ثور-إيبل» لبعثة الانطلاق إلى القمر، وانطلق الصاروخ الأول إلى القمر من موقع كيب كانافيرال بعد شروق الشمس مباشرة في 17 أغسطس. حققت شبكة «إن بي سي» التليفزيونية سبقا فضائيا ثانيا بتغطية هذا الحدث، وتولي مذيع الأخبار هربرت كابلو التعليق عليه. ارتفع الصاروخ عن منصة الإطلاق، وخرج من كانوا في برج المراقبة للحصول على رؤية أفضل؛ ثم، بعد مرور سبع وسبعين ثانية على الإطلاق، رأوا الصاروخ يختفي في السماء وسط حفنة من الدخان.
كان الجنرال شريفر من بين المراقبين، فاستدار إلى دولف ثيل، مدير البرنامج في شركة «رامو وولدريدج»، وسأله قائلا: «ماذا حدث؟» أجاب ثيل: «انفجر، انفجر.» ثم جرت دمعة على وجهه. انضم لويس دان إليهما، وكان يبدو محبطا للغاية. وعبر ألين دونوفان، المدير المسئول عن مركبة السبر القمرية، عما شعر به وقتها بقوله: «شعرت بخيبة أمل بالغة، وارتسمت على وجهي علامات الإحباط الشديد. كنت في حالة صدمة بالغة.»
استعاد الغواصون حطام الصاروخ، الذي كان قد سقط في المحيط على مسافة بعيدة من الشاطئ، وأعيد المحرك الرئيسي إلى «روكيت داين» لفحصه جيدا. كانت المشكلة تتعلق بالمضخة التوربينية. وللمفارقة، كانت دان وثيل وشريفر على دراية تامة بتلك المشكلة. كان الصاروخ «جوبيتر» التابع للجيش يستخدم المحرك نفسه، وكان الجنرال السابق مداريس قد أصدر أمرا بوقف كل اختبارات الإطلاق؛ نظرا لأنه اتضح أن دعامات المضخة التوربينية قابلة للكسر، كان شريفر يتلقى آنذاك عددا من صواريخ «ثور» التي كانت جاهزة للإطلاق، وكان يعلم أنه في حال انتظاره إلى حين الانتهاء من تصميم محركات جديدة؛ فهو يؤخر بذلك برنامج عمليات الإطلاق التجريبية. كان معدل ظهور تلك المشكلة مرة كل سبع عمليات إطلاق؛ لذا قام شريفر بمخاطرة محسوبة؛ حيث قرر إطلاق «ثور» بغرض الحصول على بيانات مفيدة كان سيعود بها إذا تمت عملية الإطلاق على النحو الصحيح، بينما كان يدرك أن بعض نماذج صواريخ «ثور» لن تفلح في الإطلاق؛ ومن ثم، كان انفجار الصاروخ في السماء أمرا خارجا عن نطاق السيطرة.
لكن على حد تعبير ثيل: «ما يشغلنا كثيرا هو العمل على إطلاق صاروخ جديد قريبا جدا؛ لذا، هلموا يا رفاق، دعونا نبدأ العمل.» سنحت الفرصة التالية بعدها بثمانية أسابيع، قبيل يوم كولومبس مباشرة. في هذه المرة، اقتربوا كثيرا من إحراز النجاح، حتى إن الجميع استشعر مذاقه.
جرت عملية الإطلاق بعد منتصف الليل ببضع ساعات؛ أضاء الصاروخ «ثور» منطقة الإطلاق لوهلة من خلال الضوء الأبيض الساطع لعادمه، ثم خلف شعاعا منحنيا براقا مع صعوده، ثم بدأ يحلق في اتجاه المسار. بدأت جميع محركات صواريخ المراحل الثلاث في العمل، بينما تخلى عدد من طاقم الإطلاق عن تحفظهم الحذر وانتابتهم موجة فرح عارمة. لكن، يتذكر ريتشارد بوتن، الذي كان مسئولا عن عملية التتبع، قائلا: «ربما لم يمر أكثر من خمس دقائق على عملية الانطلاق حتى اكتشفنا وجود مشكلة.» لم يتمكن صاروخ المرحلة الثالثة من الانفصال عن الصاروخ الرئيسي على نحو سليم؛ إذ ظل معلقا للحظة ثم انحرف عن الاتجاه الصحيح؛ وهو ما أدى إلى خروج الصاروخ سريعا عن المسار؛ ومن ثم أسفرت عنه عملية تحليق غير دقيقة وانخفاض شديد في مستوى السرعة.
احتاجت المركبة الفضائية «بايونير 1» إلى سرعة 24100 ميل في الساعة لبلوغ القمر، إلا أن هذه السرعة تضاءلت إلى أقل من 500 ميل في الساعة. مع ذلك، كانت ترتفع عاليا وبطلاقة، وعلى الرغم من أنها لم تبلغ القمر، فقد وصلت إلى ارتفاع 70745 ميلا. كانت هذه رحلة استكشاف فضاء حقيقية، تحمل على متنها معدات ترسل بيانات حول أوضاع كونية تتجاوز بكثير المدار الأرضي. ومع بلوغ المركبة الفضائية «بايونير 1» ذروة ارتفاعها، لامست حدود الفضاء بين الكواكب.
لم يكترث بالنوم سوى عدد قليل من طاقم العمل في المشروع، على الأقل بينما كانت المركبة الفضائية لا تزال منطلقة في مسارها. بعد ثلاث وأربعين ساعة من الإطلاق، عاودت المركبة الفضائية الولوج إلى الغلاف الجوي فوق منطقة جنوب المحيط الهادئ. لم تتذبذب الإشارة الصادرة عن المركبة على الإطلاق، وظلت واضحة وقوية، حتى توقفت دون سابق إنذار. وبينما كانت المركبة تندفع في أعماق الغلاف الجوي العلوي، احترقت كما لو كانت نيزكا، لكنها كانت قد اقتربت جدا من بلوغ الأرض، وحتى تلك اللحظة كان ذلك كافيا.
حان الآن دور أمريكا لتلقى الثناء من عالم مبهور بما يراه. وصفت صحيفة «لا كروا» الصادرة في باريس الأمر بأنه «أكثر الأحداث إبهارا في التاريخ». كما وصف رئيس وزراء الهند نهرو، الذي كان ينتقد الولايات المتحدة باستمرار، ذلك الحدث بأنه «نصر مؤزر للعلم الحديث». وفي الولايات المتحدة، أعرب سايمون رامو عن وجهة نظره قائلا: «ظفرنا في عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة ببضع ثوان في عالم الوجود اللامتناهي.»
أثبتت عملية الإطلاق أنها تمثل ذروة نجاح جهود التطوير. سرعان ما حان دور فون براون، الذي كان يأمل في التحليق إلى ما وراء القمر بمركبة فضائية لا يتجاوز وزنها ثلاثة عشر رطلا. كان حجم المركبة صغيرا، حتى إن أحد مديري مختبر الدفع النفاث، ويدعى دان شنايدرمان، استطاع أن يحملها بنفسه إلى موقع كيب على متن طائرة، حيث وضعها إلى جانبه في حاوية شغلت مقعدا بمفردها. أثبت حجمها الضئيل أن البعثة اقتربت من حدود ما كان فون براون يستطيع أن يقدمه، واتضح أنه كان على بعد مسافة صغيرة للغاية من ذلك.
Unknown page