ولكنه تجلد وهو يمر بالأروقة والدهاليز، والخدم يقفون له حتى انتهى إلى دار قوراء مفروشة بالبسط الثمينة، فوقها جلود النمور والسباع، وفي جوانبها قضب المناور عليها الشموع الملونة، فوقف إسماعيل هناك وهو يتشاغل بقراءة ما نقش على الجدران من أبيات الشعر أو الحكم؛ لعله يحتاج إلى إذن ثان على جاري العادة في الداخلين على الخليفة، فرأى الآذن قد عاد وهو يشير إليه أن يتقدم؛ لأن مثله لا يحتاج إلى إذن ثان.
فتقدم نحو باب عليه ستارة من الديباج المخوص بالذهب فتحه الآذن بيده اليسرى، وأشار إلى إسماعيل باليمنى أن يدخل، فدخل إلى إيوان كبير طوله ثلاثون ذراعا في ثلاثين، قائم على أساطين من الرخام، وعلى جدرانه صور مما في البر والبحر نقشت بالذهب والفضة، تتخللها أبيات من الشعر، وحكم مكتوبة بماء الذهب، وفي أرضه بساط من الديباج الأصفر كأن صانعه قلد به القطيف بساط كسرى، عليه نقوش بألوان زاهية بينها خيوط القصب تمثل أشجارا وأنهارا وطيورا وأسماكا، توهم الناظر أنه في حديقة يانعة الثمار جرت فيها الجداول، وتغنت فيها الأطيار. وعلى حواشي البساط وشي جميل. وسقف الإيوان قبة عظيمة الاتساع، مبنية على ثلاثة عقود،
ورأى إسماعيل الكراسي المنصوبة خارج الستارة لجلوس بني هاشم، وليس عليها أحد منهم، ويسمى الهاشميون في اصطلاح تلك الأيام أبناء الملوك أو الأشراف.
2
وأما الوسائد المطروحة أمام الكراسي لجلوس الخاصة من الأمراء والقواد، فرأى على بعضها أناسا من الهنود عليهم القبعات المزركشة، وملابسهم من نسيج الهند، عليها صور ملونة تمثل بعض الحيوانات الكبرى، ولا سيما الفيل، وفي أعناقهم عقود من الجواهر الثمينة بينها تعاويذ من الذهب تمثل بعض أصنامهم، وقد جلسوا خاشعين متهيبين ينتظرون أمر الخليفة، وبين أيديهم على البساط سيوف من صنع بلادهم يقال لها السيوف القلعية، فعلم أنهم الوفد القادم من ملك الهند، وأن أصحاب الكلاب في الدهليز تابعون لهم.
فأشار صاحب الستارة إلى إسماعيل أن يدخل إذا شاء، أو يجلس على أحد الكراسي، ريثما يفرغ الرشيد من هؤلاء الهنود. وكان إسماعيل قد سمع الرشيد يتنحنح، فعلم أنه جالس هناك على سريره وراء الستارة، ففضل الجلوس هناك حتى يفرغ من هؤلاء، وهو يخشى أن يحولوا بينه وبين ما يريد من مخاطبة الرشيد، ثم سمع الرشيد يخاطبهم من وراء الستار بواسطة الترجمان، وهو صاحب الستارة؛ لأنهم كانوا يختارون أصحاب الستارة من الناطقين باللغات في مثل هذه الأحوال، فقال الرشيد لرئيس الوفد: «ما الذي أتيتمونا به؟»
قالوا: «هذه سيوف قلعية لا نظير لها عندنا.»
فدعا الرشيد بالصمصامة؛ وهي سيف عمرو بن معدي كرب، وأمر أحد رجاله الأتراك فقطع بها تلك السيوف واحدا واحدا، وأمر أن يريهم ذلك السيف فرأوه، فإذا هو لا فل فيه، فأسقط في أيديهم ونكسوا رءوسهم، ثم قال: «وما عندكم غير هذا؟»
قالوا: «أتينا بكلاب لا يلقاها سبع إلا عقرته.»
فلما سمع إسماعيل قولهم زاد تهيبا من رؤيتها، ثم سمع الرشيد وهو يقول: «إن عندنا سبعا، فإن عقرته كلابكم فهي كما ذكرتم. أخرجوها إلى السباع في أقفاصها، وأمروا السباع أن يخرج السبع عليها ونحن ننظر إلى ما يدور بينها من الروشن.»
Unknown page