Bila Quyud
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
في ذروة الفيضانات السنوية، يتدفق النيل بمعدل خمسة أميال تقريبا في الساعة وهو يتجه شمالا نحو البحر المتوسط، ويحدث تباطؤ لهذا التيار لأكثر من ثلاثة أميال بقليل في الساعة بمجرد انحسار مياه الفيضان، لكن حيث إن الرياح السائدة في ذلك الجزء من العالم تهب في اتجاه الجنوب، فقد بنى المصريون سفنا قادرة على الإبحار جنوبا، مدفوعة بالرياح الشمالية ومقاومة التيار المتدفق شمالا. وفي رحلة العودة، كان الطاقم ينزل الشراع فحسب، ويطفو بسفينته شمالا مع التيار عائدا إلى البحر المتوسط؛ لذلك كان الرمز الهيروغليفي المصري لكلمة «جنوب» هو سفينة ذات صار قائم وشراع مبسوط للرياح، في حين كان الرمز الهيروغليفي لكلمة «شمال» هو سفينة أنزل صاريها، منجرفة مع تيار النيل.
بمرور الزمن، تطورت قوارب المصريين وسكان بلاد الرافدين النهرية المسطحة ضحلة البدن بإضافة الحواف المرتفعة وعارضات القعر المستديرة التي أتاحت لهم الإبحار في مياه البحار المفتوحة الأكثر هيجانا. أتاحت هذه المراكب البحرية للمصريين القدماء الإبحار من مصب النيل إلى سواحل بلدان شرق المتوسط، ومن البحر الأحمر إلى مواقع في شبه الجزيرة العربية والهند وأفريقيا. ومكنت السومريين القدماء من الإبحار من بلاد الرافدين مئات الأميال جنوبا إلى سواحل أفريقيا وشرقا إلى سواحل الهند. كل من المصريين وسكان بلاد الرافدين كانوا يعقدون صفقات تجارية كبرى باستيراد الأحجار من أجل صناعة الأدوات، وحجر اللازورد الشبه الكريم، ولاحقا خامات القصدير التي كانوا يحتاجونها لصناعة أدوات وأسلحة من البرونز.
في الوقت نفسه، وعلى بعد أكثر من ألف ميل شرقا من بلاد الرافدين كانت نشأة حضارة أخرى في وادي نهر السند في شمال غرب الهند؛ فقد قامت المدينتان البارزتان، موهينجو دارو وهارابا نحو عام 3300 قبل الميلاد على ضفاف نهر السند. وبعد ذلك بتسعمائة عام، أنشئت مدينة لوثال - أحد مراكز الصناعة والتجارة المهمة - على ضفاف نهر سابارماتي. وقد عثر على أدلة على سلع تجارية من لوثال في مناطق بعيدة شرقا بلغت جنوب شرق آسيا، وفي مناطق بعيدة غربا حتى ساحل شرق أفريقيا.
شكل 7-2: تميزت مدن حضارة وادي السند التي نشأت بعد عام 3300 قبل الميلاد بشبكات صرف صحي متقدمة، وشون عامة كبيرة، ومنشآت مرفئية جيدة التجهيز.
بسطت مدن حضارة وادي السند سلطتها على ملايين السكان، ولم يكن يضاهيها أي مراكز مدنية في العالم القديم؛ فقد كانت مجتمعات أنشئت على أساس التخطيط، فكانت ذات شوارع مصممة متعامدة بعضها على بعض؛ التخطيط الشبكي الذي لم يظهر مرة أخرى إلا مع نشأة الحضارة الرومانية بعد 2500 عام. وكانت المنازل مبنية من الطابوق المحروق، وفي هذا تناقض واضح مع الطوب اللبن المجفف في الشمس الذي كان يستخدم في كل مكان خلال هذه الفترة. كذلك كان هناك شبكات معقدة للمياه والصرف الصحي اشتملت على أقدم مراحيض بأنظمة صرف في العالم، وحمامات عامة كبيرة، وشبكة مجارير تحت الأرض كاملة ببالوعات مبطنة بالقرميد.
لم يعثر إلا على أدلة قليلة في حضارة وادي السند تشير إلى الفوراق الشديدة في الثروة، والتي كانت أمرا معتادا في الحضارات القديمة الأخرى، وهذا أمر يثير الانتباه. ورغم أن عمليات التنقيب قد كشفت عن العديد من المخازن والشون والحمامات العامة، فإنه لم يعثر بعد على أثر في أطلال هارابا أو موهينجو دارو أو لوثال للقصور أو المعابد أو المباني العسكرية العملاقة المعهودة في دول مدن الحضارات القديمة الأخرى. يبدو أن مجتمع الحرفيين والتجار هذا ظل لأكثر من ألف عام ينعم بدرجة من المساواة والراحة المادية كانت فريدة في العصور القديمة. بيد أن حضارة وادي السند انهارت سريعا بعد عام 1850 قبل الميلاد، وبحلول عام 1700 قبل الميلاد كانت قد تلاشت تماما. ولم تشهد مرة أخرى قط «حضارة تنعم بالعدالة والمساواة» في العالم القديم.
شكل 7-3: نشأت أقدم حضارات الصين في واديي نهري اليانجتسي والأصفر. وقد ربط بين هذين النهرين لاحقا القناة الكبرى، أكثر مشروعات شبكات المياه أهمية في تاريخ البشرية.
لم تبدأ الحضارة المدنية في الصين حتى حلول عام 2000 قبل الميلاد تقريبا - بعد ظهورها في وديان أنهار الهند والهلال الخصيب بنحو ألف عام - لكنها سرعان ما صارت أكثر الحضارات المدنية القديمة اتساعا وتنظيما واستمرارا. ويبدو أن أول مركز مدني في الصين نشأ في إرليتو، أحد المستوطنات الكبيرة على ضفاف النهر الأصفر، حيث دلت آثار سبك البرونز وبعض بقايا الكتابة الصينية على بدايات المجتمع المتحضر.
كانت أراضي وديان الأنهار المنخفضة الخصبة في الصين أكثر اتساعا عنها في أي مكان آخر في العالم، حيث بلغت مساحة أحد السهول الرسوبية الشاسعة، الذي غطى أغلب المساحة بين واديي النهر الأصفر ونهر اليانجتسي، نحو 750 ميلا عرضا من الشرق للغرب، وألف ميل طولا من الشمال للجنوب. وكان وادي نهر اللؤلؤ في جنوب الصين قطعة مهمة ثالثة من الأراضي الزراعية الخصبة التي امتدت داخليا من بحر الصين الجنوبي لأكثر من خمسمائة ميل حتى حدود فيتنام.
شاب تاريخ الصين القديم عدة قلاقل سياسية حين كانت القوى والسلطة السياسية تتداول، على حين غرة في بعض الأحيان؛ إذ توالى ما لا يقل عن سبع عشرة أسرة حاكمة وحكومة خلال الأربعة آلاف عام التي انقضت منذ ظهور ثقافة إرليتو نحو عام 2000 قبل الميلاد وحتى عام 1911م، حين انهارت أسرة تشينج الحاكمة وأسست الأمة الصينية الحديثة. طوال هذه الفترة، ظلت السلطة السياسية في الصين تتنقل بين أكثر من أربعين عاصمة مختلفة من وقت لآخر، وهي لا تشمل العواصم المتعددة التي أنشئت خلال أربع فترات محددة من الانقسام السياسي، حين انقسم المجتمع الصيني إلى عدة دول مدن متحاربة.
Unknown page