Bila Quyud
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
القدرة على السرد جعلت من الممكن للصيادين عند عودتهم لمقرات إقامتهم بغنائمهم المرجوة من اللحم أن يقصوا كيف عثروا على فريستهم وتتبعوها وحاصروها وأجهزوا عليها وذبحوها. وقد مكن السرد جامعات الثمار من أن يصفن كيف انتقلن من مقرات إقامتهن إلى الموقع المحدد الذي أمكن العثور فيه على الثمار والجذور والدرنات المرغوب فيها وغيرها من الأطعمة. وبفضل السرد أمكن وصف عملية صناعة الأدوات والأسلحة والأوعية والمساكن والملابس خطوة بخطوة، وسائر الأشياء الكثيرة الأخرى التي كان الصيادون والجامعون يعتمدون عليها. كما مكن السرد المعالجين الروحيين والمداوين من شرح مسببات الأمراض، وتعليم تلامذتهم كيفية إجراء طقوس معالجة المرضى والجرحى.
من بين الإسهامات العديدة لقدرة السرد في ثقافة البشر، أنها أتاحت لرواة القبيلة أن يحكوا حياة الأسلاف وآلهة القبيلة وأعمالهم، وأن يشرحوا كيف نشأ الكون، ويرتلوا الأناشيد والطقوس المقدسة التي أضفت معنى وثراء على الحياة القبلية. شكل حاصل مجموع هذه القصص «التراث الشفهي» الذي دونه اختصاصيو علم الإنسان في كل ثقافات عصور ما قبل الصناعة التي درسوها. وكان هذا التراث الشفهي بمثابة مستودعات للتجارب والحكمة الجماعية لكل مجتمع من المجتمعات البشرية حتى ميلاد الحضارة واختراع الكلمة المكتوبة.
وأخيرا منحت القدرة على السرد الإنسان الحديث تشريحيا طريقة لمعرفة كيف جرت الأحداث في الماضي، بل وكيف ستجري في المستقبل أيضا. على هذا المنوال، منح اختراع الحكي لنوعنا القدرة الفريدة على تصور مرور الوقت والاستعداد لأحداث لن تقع قبل أيام أو أسابيع أو شهور في المستقبل.
لذا، ليس من قبيل المصادفة أنه عندما حل مكان بشر النياندرتال الإنسان الحديث الذي تمتع بثقافات ثرية بالتواصل الرمزي - والذي امتلك، من خلال الاشتراك في رمزية اللغة والتراث الشفهي، معلومات أكثر بكثير حول سبل العيش - ازدادت أعداد البشر في أوروبا خلال بضعة آلاف السنين حتى صارت عشرة أضعاف ما كانت عليه خلال زمن بشر النياندرتال.
قوة التطور الثقافي
تتكون الآلية الأساسية للتطور البيولوجي من ثلاث عمليات أساسية؛ أولا: يرث كل جيل خواص والديه من خلال المعلومات المشفرة في المواد الوراثية التي يمده بها كل من الأب والأم. وثانيا: تفقد بعض هذه المعلومات أو تتغير حتما من خلال عملية إلى حد كبير عشوائية نسميها «الطفرة». وثالثا: أغلب الطفرات إما أن تكون بلا تأثير على نمو الكائن أو تكون مضرة أو غير ملاءمة؛ مما يجعل الحياة عسيرة على الأفراد الذين تغير حمضهم النووي.
إلا أنه في حالات قليلة جدا يتضح أن الطفرات العشوائية مفيدة وتساعد الكائن في التكيف مع بيئته بكفاءة أكثر. ونتيجة لهذا، يزداد انتشار الطفرات الأكثر نفعا في الجماعة المتكاثرة، وفي النهاية - إن كانت تلك الطفرات ملائمة بدرجة كافية - تصير النمط الطبيعي الجديد داخل الجماعة المتكاثرة. وهذه هي العملية الأساسية التي نتجت عنها القدرة على السير والعدو على ساقين، واستخدام النار، وطهو الطعام، وبناء المساكن، وحياكة الملابس، وما إلى ذلك.
لكن التطور البيولوجي له حدود؛ فهو مبدئيا بطيء للغاية؛ إذ استغرق أسلافنا الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ ملايين السنين ليكتسبوا الاستقامة التامة للقامة والحركة الفعلية على القدمين، واستغرق مخ أشباه البشر أكثر من مليون سنة حتى يصل إلى حجمه الضخم الحالي. خلال عملية التطور البيولوجي، لا يمكن أن تنتقل المعلومات الجينية الجديدة والأعظم فائدة إلا من أحد الوالدين لنسله البيولوجي. هذا معناه أنه لا بد من تعاقب أجيال عديدة قبل أن ينتشر الجين المفيد في الجماعة المتكاثرة. وقبل أن ينجح يجب على أبناء وأحفاد وأبناء أحفاد الفرد الأول الذي كان لديه هذه المادة الجينية الجديدة ، أن يتفوقوا باستمرار على أبناء وأحفاد وأبناء أحفاد أفراد الجماعة الآخرين، ويفوقوهم عددا في النهاية.
الحمض النووي للنوع هو مجموعة كاملة من إرشادات بناء كل أعضاء الكائن الحي، مثل وصفة صنع نوع من الكعك أو مخطط تشييد بناء. وإذا تغير أي من هذه الإرشادات لن تصنع الكعكة أو يشيد البناء أو الكائن كما خطط له. وحين تكون هذه التغييرات مجرد إخفاقات عشوائية في استنساخ الإرشادات، ستبدو «أخطاء» في المنتج النهائي؛ لذا من الضروري لأي مجموعة من الكائنات الحية أن تستبعد آلاف من الطفرات الضارة قبل أن تظهر طفرة واحدة مفيدة يمكن الاحتفاظ بها خلال عملية الانتقاء الطبيعي.
أما التطور الثقافي فلا تعترضه أي من هذه العوائق؛ فقد ينشأ نوع جديد من السلوكيات لدى فرد واحد وينتقل سريعا إلى أفراد آخرين من خلال التعلم والمحاكاة. وإذا كان هذا التصرف الجديد يساعد الفرد على التأقلم مع بيئته بنجاح أكثر، فمن الممكن أن ينتشر بسهولة بين أفراد الجماعة الاجتماعية بأسرها خلال جيل واحد.
Unknown page