Bila Quyud
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
الرموز والهوية الإثنية المشتركة
في شهر يونيو في أوائل العقد الأول من القرن التاسع عشر، في السهول العظمى في غرب أمريكا الشمالية، كان قيظ الصيف يقترب، وكانت جماعات هنود الشايان المتفرقة، المشهورة بصيد الجاموس في السهول العظمى الأمريكية تسير على مهل من ملاذ معسكراتها الشتائية في الوديان الحرجية نحو دائرة المخيمات الكبرى التي ستقام قريبا في حقل مفتوح على ضفاف نهر بلات. وهناك، في صباح الانقلاب الصيفي، تقام ألف خيمة، تمثل قبيلة الشايان بأسرها، في حقل كبير مفتوح، حيث ستؤدى مراسم تجديد السهم المقدس.
طوال الجزء الأكبر من العام، كانت جماعات الشايان العديدة المتنوعة تعيش في مخيمات متناثرة على نطاق واسع، تصطاد طعامها وتجمعه في جماعات تتكون من أسر غير مترابطة، لكن حين كانت قوة القبيلة في أشدها سيطر أقل من 4000 هندي من الشايان على منطقة من البراري اتسعت مئات الأميال من مونتانا في الشمال حتى كانساس في الجنوب؛ مساحة تعادل ضعف مساحة تكساس. كيف دافعت قبائل الشايان بنجاح عن أرضها الشاسعة ضد القبائل الهندية الأخرى في السهول التي كانت تطمع في مناطق صيدها، والتي لم تكن أكبر منها حجما فحسب، وإنما تعادلها في التمكن من فنون الحرب أيضا؟ يبدو أن الإجابة هي أن قبائل الشايان اكتسبت القدرة على التصدي لأعدائها بجبهة متحدة تماما، وهو الأمر النادر نسبيا بين قبائل سهول أمريكا الشمالية.
كان أعضاء قبائل الشايان صائدي جاموس ومحاربين لا يستهان بهم متمكنين من فنون القتال. وكان قتل شخص من إحدى القبائل المعادية أو إصابته يعد إنجازا عظيما بين ظهراني قبيلة الشايان، وعملا يحق لصاحبه الزهو به ما تبقى له من العمر، لكن بين الرجال الذين يعرفون كيف يقتلون، دائما ما يوجد خطر أن يتصاعد النزاع على الأرض أو الملكية أو النساء ليصير عنفا يؤدي إلى إصابة أو موت داخل القبيلة. في الواقع، كان مثل تلك الصراعات أمرا معتادا بين العديد من قبائل الأمريكيين الأصليين، ولم يكن من غير المألوف أن ينخرط أفراد هذه القبائل الأخرى في حلقات من الانتقام والهجوم المضاد؛ حيث يؤلبون أفراد القبيلة نفسها بعضهم ضد الآخر.
ما تميزت به قبيلة الشايان على قبائل السهول الهندية الأخرى كان متأصلا في ثقافتهم ومنظومة قيمهم الفريدة، حيث كان تضامن القبيلة فضيلة عظمى، وحيث كان القتل - الذي كان يعرف بأنه قتل أحد أفراد قبيلة الشايان لفرد آخر منها - «يلطخ» السهام المقدسة التي كانت تعد رموزهم العظمى لوحدة القبيلة. كان القتل يضع القبيلة بأسرها في مأزق أخلاقي، فيسلبها حماية الأرواح الإلهية والقوى السحرية الي تتمتع بها السهام نفسها. اعتقد الشايان أن جسد القاتل يتعفن من داخله، ويصير فاسدا ومتفسخا حتى يموت القاتل ميتة بطيئة. يمكن وقف هذه الآثار فقط إن تاب القاتل عن خطيئته بتولي رعاية مراسم تجديد السهم، وهي مهمة شاقة تتطلب شهورا من السفر على صهوة حصان لزيارة كل فرق الشايان المنتشرة على مساحة مترامية من أراضي الصيد التابعة لقبيلتهم وإخبارها.
كان الهدف من مراسم تجديد السهم هو «التطهير» الرمزي للسهام الأربع المقدسة - من خلال الصوم والصلاة وإقامة الشعائر لأيام - التي توارثتها الأجيال من بطل الشايان الأسطوري «طبيب العشب الحلو»، الذي استلمها من الروح العظمى منذ زمن طويل. وكان كل أفراد قبائل الشايان يتجمعون مرة كل بضع سنوات لإقامة مراسم تجديد السهم المقدس، حيث كانت قبيلة الشايان كلها تنادي أرواح أسلافها أن تجدد الأرض، وتمسح آثام الماضي، وتجدد روابط الأخوة بين كل أفراد الشايان؛ وبهذا تضمن وفرة حيوانات الصيد والانتصار في الحرب.
في اليوم الأول من مراسم تجديد السهم - يوم الانقلاب الصيفي - كانت ألف أسرة من أسر الشايان تقيم ألف خيمة، على شكل قوس هلال كبير يواجه الشمس البازغة، حيث يلتقط باب كل خيمة الأشعة الأولى التي تظهر في الأفق. وفي مركز هذا الهلال كانت تقام خيمة جماعية كبيرة، مقام سهم الطبيب؛ حيث كانت السهام المقدسة تجدد وتطهر.
في اليوم الثاني، كان الكهنة يتخذون أماكنهم في مقام سهم الطبيب، وكانت الأضاحي توضع على سبيل القرابين قبالة المذبح القائم في وسط المقام، وبعد أداء طقوس سرية معينة بعناية، وإنشاد أغان مقدسة، وإقامة الصلوات، كانت الصرة التي تحتوي على السهام المقدسة تفتح وتفحص. كان لهذه اللحظة حرمة شديدة، حتى إنه كل أفراد الشايان عدا أولئك المشاركين فعليا في المراسم كان عليهم التزام الصمت والسكون التام في خيمهم، في حين كان أفراد جمعية محاربي الشايان يحرسون منطقة المخيم الكبير في يقظة؛ فإن بدأ طفل في البكاء أسكت سريعا، وإن نبح كلب كان يقتل في الحال بضربة سريعة من هراوة أحد المقاتلين.
في اليوم الثالث من المراسم، كانت الأسهم المقدسة تنظف وتصلح، ويقطع غصن صفصاف طويل لكل أسرة من أسر الشايان. كان كل غصن، واحد تلو الآخر، يباركه كهنة القبيلة بدخان البخور لإعطاء كل أسرة عهدا جديدا. وكان أفراد كل أسرة يحتفظون بغصنهم ويعتنون به باهتمام طوال العام، كتذكرة بأنهم شايان، وأنهم ينتمون إلى شيء أكبر من أنفسهم، وأكبر من أسرهم، وأكبر من الجماعة المحلية من العائلات المترابطة التي عاشت وسافرت معا ، تمارس الصيد وجمع الثمار كل منها داخل أراضيه.
على هذا المنوال، كان الشايان يسخرون القوة العاطفية للتواصل الرمزي في دمج العشرات من المجموعات الرحالة الصغيرة في كيان قبلي واحد قادر في وقت قصير على التضافر في قوة مقاتلة من آلاف الأشخاص. بلغة مشتركة، وولاء مشترك لسلطة السهام المقدسة وغيرها من رموز القبيلة، كانت جماعات الشايان المتعددة تستطيع الانتظام سريعا في مجموعة واحدة كبيرة تضم أغلب أفراد القبيلة. بهذه الطريقة، صار المجتمع الانقسامي الاندماجي الذي ورثه كل من قردة الشمبانزي وأشباه البشر من أسلافهم المشتركين، قادرا على خلق شعور التضامن القبلي بين أفراد الجماعات الرحالة المتناثرة المتعددة.
Unknown page