Bila Quyud
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
شكل 5-1: مارسيلينو سانز دي ساوتولا وابنته ماريا، اللذان اكتشفا معا إحدى أكبر وأروع مجموعات فن عصور ما قبل التاريخ، في كهف ألتاميرا، في إسبانيا. (صورة ماريا سانز دي ساوتولا من متحف ما قبل التاريخ في سانتاندر.)
وفي عام 1878م سافر دي ساوتولا إلى فرنسا لحضور معرض باريس العالمي، وبينما هو في باريس تمكن من فحص بعض بقايا إنسان الكرومانيون التي استخرجها لويس لارتيت من الكهف الواقع في ليز إزيه. في الصيف التالي، بعد العودة إلى كهف ألتاميرا، أخذت ماريا مرة أخرى تلتمس من أبيها السماح باستكشاف الكهف من الداخل. رضخ دي ساوتولا أخيرا وأعطاها شمعة، وشدد عليها باتخاذ حذرها حيث سارت. غابت ماريا في الظلام، وبعد دقائق قليلة، تردد فجأة صوت ماريا من باطن الكهف وهي تصرخ قائلة: «ثور! ثور!» وحين هرع دي ساوتولا داخلا في الظلام وجد ماريا واقفة في معرض كبير تتطلع بنظرها إلى السقف. وهناك اندهش لرؤية صور نابضة بالحياة لبيسون منقرض، مرسوما بواقعية عجيبة على سقف الكهف (انظر شكل
5-2 ).
شكل 5-2: رسم لبيسون منقرض وجدته ماريا دي ساوتولا في كهف ألتاميرا. هذه الرسومات التي أنكرها في البداية علماء الحفريات، صارت الآن من أهم شواهد فن ما قبل التاريخ. (المصدر: ويكيميديا كومونز.)
تواصل دي ساوتولا مع صديقه خوان فيلانوفا إي بييرا، المتخصص في الجيولوجيا وعلم الحفريات في جامعة مدريد، وبعد فترة قصيرة سافر فيلانوفا إلى ألتاميرا ليرى الرسومات بنفسه. كان فيلانوفا مقتنعا بأن اللوحات بالتأكيد من إبداع ساكني كهوف العصر الحجري القديم؛ لانبهاره بثراء فنها وتميزه. هكذا أعد الرجلان تقريرا علميا بهذا الاكتشاف الاستثنائي، ونشرا في عام 1880م النتائج في عدة صحف إسبانية. وسرعان ما صار فن العصر الحجري القديم البارع الذي وصفاه مثار حديث أوروبا، بعد أن أشاد به الجمهور الإسباني. وفي وقت لاحق من ذلك العام، في مؤتمر عن عصور ما قبل التاريخ عقد في لشبونة، في البرتغال، عرض البروفيسور فيلانوفا رسميا وصفه لفن ألتاميرا على اختصاصيي علم الحفريات المجتمعين من جميع أنحاء أوروبا.
إلا أنه مع خاتمة العرض التقديمي لفيلانوفا غشي القاعة صمت لا يبشر بخير؛ فلم يكن أي من اختصاصيي علم الحفريات الموجودين في مؤتمر عصور ما قبل التاريخ مستعدا لتصديق أن بشر عصور ما قبل التاريخ الذين عاشوا في الكهوف ، والذين كانوا يعتبرونهم همجا وغلاظا وبدائيين، كان باستطاعتهم تنفيذ أعمال فنية بهذه المقدرة. وفي الحال شككوا في أصالة رسومات ألتاميرا. وهكذا استهزأت الكوادر العلمية، بزعامة اختصاصي علم الإنسان الفرنسي، جابرييل دي مورتييه، باستنتاجات فيلانوفا ودي ساوتولا، وأدانت منشوراتهما باعتبارها «أعمال تلفيق وخبل».
في ذلك الوقت، كان من القناعات السائدة بين مفكري أوروبا العصر الفيكتوري أنه من غير الممكن أن تستطيع مجموعة من «بدائيين» من عصور ما قبل التاريخ إنتاج فن بالواقعية والتعقيد والمهارة التقنية التي تميزت بها رسومات كهف ألتاميرا. هكذا فإن اختصاصيي علم الحفريات في مؤتمر عصور ما قبل التاريخ، رفضوا رفضا قاطعا فكرة أن تكون رسومات ألتاميرا من عصور ما قبل التاريخ، وانتهوا إلى أنها لا بد أن تكون من إبداع فنانين معاصرين، حتى إن بعض المشاركين في المؤتمر افترضوا أن «اكتشاف» دي ساوتولا كان تزويرا متعمدا نفذه فنان إسباني معاصر بناء على أوامر دي ساوتولا.
هكذا قهر دي ساوتولا، وعاد إلى إقطاعيته، وقد صار مادة للشفقة والسخرية، وعانى من الاكتئاب، وتدهورت صحته حتى وافته المنية بعد ثماني سنوات. أما مدخل كهف ألتاميرا فقد أغلق، ولم تسمح ماريا دي ساوتولا لأي شخص بدخوله لسنوات.
لكن في السنوات اللاحقة، اكتشفت أمثلة من فنون ما قبل التاريخ تعود لنفس فترات العصر الحجري القديم في مواقع أخرى عدة من عصور ما قبل التاريخ في فرنسا وإسبانيا. وتضمن الكثير من فن ما قبل التاريخ هذا رسومات في كهوف أبدعت بمهارة وحرفية تضاهي تلك التي في ألتاميرا.
8
Unknown page