Bila Quyud
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genres
غير أن صانعي الفخار في مصر ووادي نهر السند بدءوا في نهاية الأمر إجراء تجارب على طلاءات الزجاج المصنوعة من خلطات معدني المالكيت الأخضر والأزوريت الأزرق الزاهيين - وكلاهما من خامات النحاس - لصناعة قطع الخزف ذات اللون الأخضر المائل للزرقة الذائعة الشهرة المسماة قيشاني. وسرعان ما اكتشفوا أن هذه الخامات يمكن صهرها لتصير نحاسا معدنيا بخلطها بالفحم النباتي وتسخينها في فرن مشتعل لدرجة الابيضاض لعدة ساعات.
وقد أدى هذا الاكتشاف إلى تشكيل النحاس المصهور في قوالب لصنع أدوات وأسلحة مثل القدائم ورءوس المطارق ورءوس الرماح، غير أن النحاس كان نادرا وباهظ التكاليف، كما أنه كان رخوا لدرجة يصعب معها صنع أدوات وأسلحة رفيعة وحادة منه، مثل السكاكين ورءوس السهام، التي كانت مهمة في هذه التقنيات المبكرة. هكذا ظل النحاس لزمن طويل مادة هامشية ذات دور محدود في تقنيات المجتمعات الزراعية الأولى.
لكن في وقت ما بعد عام 4000 قبل الميلاد، اكتشف النحاسون في الشرق الأوسط أنه من الممكن صناعة البرونز، وهو الفلز الذي ثبت تفوقه الشديد على النحاس، بخلط النحاس بكميات صغيرة من الزرنيخ - بلورات فلزية سامة - ثم لاحقا بكميات قليلة من القصدير، وهو فلز غير سام. ولم يتميز البرونز بسهولة تشكيله فحسب، ولكنه تميز أيضا بدرجة انصهار أدنى من النحاس النقي. ورغم ذلك كان البرونز يتمتع بالصلابة والصلادة الكافيتين لتصنع منه أدوات وأسلحة تفوق الأدوات والأسلحة الحجرية التي ظلت البشرية تستخدمها منذ فجر ما قبل التاريخ. وقد جعلت سبائك النحاس والقصدير هذه من التعدين تقنية مهمة لأول مرة.
إلا أن استخدام القصدير في صنع البرونز أحدث مشكلة جديدة؛ ففي حين أن رواسب الزرنيخ السام كثيرا ما يعثر عليها مخلوطة مع خامات النحاس، فإن رواسب القصدير - البديل الأكثر أمنا - لم يكن يعثر عليها بالقرب من النحاس قط، بل لم تكن خامات القصدير متوافرة إلا في أماكن قليلة في العالم القديم، ولم تكن أي من هذه الرواسب موجودة في مصر أو بلاد الرافدين.
امتلك المصريون رواسب غنية من النحاس في صحراء سيناء شرقي وادي النيل، لكنهم لم يكن لديهم رواسب من القصدير. ولم يتوافر أي من النحاس أو القصدير بصورة طبيعية في وادي دجلة والفرات؛ فلم تلبث كلتا الحضارتين أن بدأتا البحث عن مصادر للقصدير في الأراضي البعيدة، وحين عثرتا عليها كان لا بد من نقل الخامات الثقيلة إلى الأماكن التي يمكن فيها صهرها في صورة سبائك، وحيث يستطيع الحدادون تشكيل أغراض مفيدة منها.
هكذا أعطت الحاجة للجمع بين النحاس والقصدير زخما جديدا قويا لتطوير تقنيات النقل، ولا سيما النقل البحري. وسرعان ما حول سكان بلاد الرافدين والمصريون، الذين ظلوا قرونا يصنعون القوارب النهرية ويبحرون بها، اهتمامهم إلى صنع سفن بالضخامة والمتانة الكافيتين للإبحار في عرض البحار بحثا عن مصادر النحاس والقصدير.
ومع التوسع في استخدام البرونز، تيسر للجيوش القديمة المتسلحة بسيوف ورماح ورءوس سهام من البرونز إلحاق الهزيمة بسهولة بالجيوش التي كانت مزودة بأسلحة ذات أطراف حجرية؛ بذلك لم يضمن استخدام البرونز انتصار المجتمعات التي تستخدم أسلحة معدنية على أعدائها في الحرب فحسب، بل عجل كذلك بتفوق ثقافات «العصر البرونزي» على ثقافات «العصر الحجري» التي واجهتها وحلت محلها. انتشر استخدام البرونز في صناعة الأدوات والأسلحة سريعا في أرجاء العالم المتحضر، حتى صار شائعا في وادي السند سنة 3300 قبل الميلاد، وفي بلاد الرافدين بعد سنة 2900 قبل الميلاد، وفي الصين مع نشأة أول المراكز الحضرية سنة 2000 قبل الميلاد.
ورغم أنه كان مقدرا أن يحل «العصر الحديدي» محل «العصر البرونزي»، فإن أغلب الحضارات القديمة ظلت تفضل لزمن طويل البرونز بعد أن صارت تقنيات صهر الحديد شائعة ومنتشرة بوقت طويل؛ لأن البرونز كان متفوقا على الحديد في عدة جوانب مهمة.
فأولا: كان البرونز ينصهر في درجات حرارة أدنى كثيرا من الحديد. وكانت سخونة نار الخشب قديما كافية لصهر النحاس والقصدير والبرونز والذهب، لكنها لم تكن تبلغ درجات حرارة مرتفعة كفاية لصهر الحديد، حتى حين كان العاملون يفرطون في إحمائها بنفخ الهواء فيها من خلال أنابيب طويلة.
وثانيا: يمكن طرق البرونز لتشكيله حين يكون باردا، أما الحديد فلا يمكن تشكيله بالطرق إلا وهو ملتهب. وكان معنى هذا أنه لا بد لتشكيل الحديد من صنع ممساكات وسنادين خاصة مقاومة للحرارة لم تكن ضرورية لتشكيل البرونز.
Unknown page