Bertrand Russell Muqaddima Qasira
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
Genres
كان راسل يعتقد أنه يمكن التغلب على مثل تلك المشكلات عن طريق إجراء تحليل شامل تماما للخطاب الواقعي العادي. ولكنه لم يتمكن قط من إجراء تحليل من ذلك النوع، ونظر إليه على أنه شيء ينبغي أن تحققه الفلسفة العلمية في المستقبل أو تتناوله بطريقة مختلفة، إذا تمكنت من اكتشاف طريقة لذلك. وتسبب ذلك في إقدامه على الإفصاح عن بعض الاعترافات اللافتة:
حين أتحدث عن العناصر البسيطة، يجب أن أشرح أنني أتحدث عن شيء لا نمر بخبرة عنه في حد ذاته، بل نعرف بالاستنتاج فقط أنه نهاية التحليل؛ فمن الممكن تجنب الحاجة لافتراضها، وذلك بقدر أكبر من المهارة المنطقية. ولن تؤدي اللغة المنطقية إلى الخطأ إذا كانت رموزها البسيطة (أي الرموز التي ليست من بين أجزائها رموز، أو أي بنية ذات معنى) كلها ترمز إلى أشياء من نوع واحد، حتى لو كانت هذه الأشياء غير بسيطة. وموطن الضعف الوحيد لمثل هذه اللغة هو أنها تعجز عن التعامل مع أي شيء أبسط من الأشياء التي تمثلها برموز بسيطة. ولكنني أعترف أنه يبدو من الواضح لي (كما كان من الواضح للايبنتس) أن ما هو مركب يجب أن يكون مؤلفا من عناصر بسيطة، مع أن عدد المكونات قد يكون لا متناهيا. (المنطق والمعرفة، ص337)
في هذه الفقرة يعترف راسل فعليا بمشكلة ربط رؤيته للمذهب التجريبي برؤيته لمذهب الذرية المنطقية - فإذا كانت البيانات الحسية هي العناصر البسيطة، ومع ذلك فإن العناصر البسيطة تستنتج ولا تأتي نتيجة المرور بخبرة، إذن فالنظرية مفككة - ويدحض الربط، الذي كان يصر عليه في أماكن أخرى، بين الرموز البسيطة والكيانات البسيطة؛ لأنه يقول هنا إن الرموز البسيطة من الممكن أن ترمز إلى كيانات مركبة؛ والشرط الوحيد هو أن تكون من نوع واحد. علاوة على ذلك، إذا كانت العناصر البسيطة لا متناهية في العدد، فإن فرص وجود لغة «مثالية» من الناحية المنطقية تتضاءل بشدة؛ لأنه سيكون من الضروري أن تحتوي على عدد لا متناه من الأسماء، ولن يصبح من الممكن إجراء التحليل نفسه على الوجه الأكمل، باعتباره إجراء من المحتمل أن يكون غير متناه.
يرى بعض المعلقين أن مذهب الذرية المنطقية كان سيحقق نجاحا أفضل إذا روعي فصله عن المذهب التجريبي وتناوله باعتباره نظرية صورية بحتة، كما تناولها فيتجنشتاين في كتاب «رسالة منطقية فلسفية». وبالنظر إليه على هذا الأساس، فإن جوهره هو أن التعبيرات (فيما عدا التعبيرات المنطقية، مثل «و») من نوعين: التعبيرات التي تدل على أشياء موجودة (بسيطة) والتعبيرات التي يمكن تحليلها إلى تلك التعبيرات. وحين نتغاضى عن المذهب التجريبي الذي يقول بأن الأشياء البسيطة هي بيانات حسية ومن ثم تكون أشياء قائمة على الاطلاع، فإننا بهذا نتغاضى عن أي وصف يتناول كيفية تعلم الناس اللغة وفهمهم إياها، وهذا خلل جسيم؛ وقطعا كان من المهم لراسل أن يتوافر مثل ذلك الوصف، ويدل ذلك على أحد أهم أوجه الاختلاف بين رؤيته لمذهب الذرية المنطقية ورؤية فيتجنشتاين. ولكن ما دام أن محاولة إدماج المذهب التجريبي في مذهب الذرية المنطقية تتسبب في مثل تلك الصعوبات، فربما يجب تقبل هذا الخلل، مع أنه سيكون من المعتاد تماما أن يحاول المرء أن يبرهن على أن عدم قابلية توافق مذهب الذرية مع هذه الاعتبارات (ينظر إليها على أنها قيود على أي وصف مناسب للغة) ربما تؤخذ كمبرر للتخلي عن مذهب الذرية نفسه.
ولكن محاولة فصل المذهب التجريبي عن مذهب الذرية يتسبب - من بين أشياء أخرى - في بعض الصعوبات لنظرية الأسماء التي وضعها راسل. حسب هذه النظرية، فإن أسماء الأعلام تشبه إلى حد كبير أسماء الإشارة «هذا» و«ذلك»؛ فهي تخلو من المحتوى الوصفي، ومعانيها هي الجزئيات التي تدل عليها؛ ولذلك لا يمكن التعرف على هذه المعاني إلا في مرات الاطلاع على الجزئيات التي تدل عليها؛ ولكن فصل الاعتبارات التجريبية معناه أن هذا الجزء من النظرية لم يعد متاحا الآن. ويتسبب هذا في مشكلة؛ إذ إن من التطبيقات الأساسية لهذا الرأي تحليل عبارات اللغة العادية التي يبدو أنها تدل مؤقتا على أشياء مستمرة، مثل المكاتب وما شابه. وتقضي النظرية في صيغتها البحتة أن يكون لكل اسم علم شيء موجود يدل عليه ذلك الاسم. ومن وجهة نظر النظرية التجريبية، فإن مثل تلك المدلولات هي بيانات حسية مؤقتة؛ ومن ثم فإننا إضافة إلى معرفة ما تدل عليه الأسماء، نعرف أنها تشترك مع مدلولاتها في سمة ما؛ وهي أنها مؤقتة أيضا. ولكن على صعيد النظرية البحتة، فإنه من غير الواضح كيف نصف الأسماء؛ لأننا لا نعرف ماهية الموجودات الأولية - الصورية البحتة - غير المعروفة. ورفضنا لوضع نظرية عن ذلك معناه أننا ليست لدينا فكرة عن كيفية عمل علاقة التسمية؛ فمثلا، لا يحدث في مناسبة تعميد - على صعيد النظرية التجريبية - أن يسمي شخص ما معلومة حسية معينة اسم «ذلك» أو أي تسمية مشابهة. وهذا معناه كذلك أننا ليس لدينا ما نقوله فيما يتعلق بالسبب الذي يجعل «هذا» الاسم يسمي «ذلك» الشيء الجزئي، وما إذا كان من الممكن أن يسمي شيئا آخر؛ وهو ما قد يبدو على أي حال بمنزلة مشكلة بسيطة فور أن نسمح لأنفسنا بتذكر وجود أسماء دون أشخاص يسمونها أو دارسي لغة أو مدركين.
توحي هذه المجموعة من الاعتبارات بأن النتيجة المرجوة من فصل مذهب الذرية عن المذهب التجريبي محدودة للغاية. ويتصادف أن هذه الانتقادات لا تمثل في حد ذاتها خطرا على جوانب مذهب الذرية المنطقية التي تقدم وصفا للمعنى؛ إذ توجد طرق أخرى لتطويرها، إلى جانب صلاتها بفهم اللغة. ولكن ينبغي أن يأخذ أي تقييم كامل في الحسبان الأسباب التي دعت راسل لتعديل بعض السمات والتخلي عن سمات أخرى - مهمة بعض الشيء - من مذهب الذرية المنطقية في سياق رأيه اللاحق في العقل والمادة. وسأقدم وصفا سريعا لهذه النقاط على الفور.
العقل والمادة
قال راسل أثناء عرضه لآرائه المتعلقة بمذهب الذرية المنطقية في عام 1918 إن «الأحادية المحايدة» التي وضعها جيمس قد أغرته ولكنه لم يقتنع بها، و«الأحادية المحايدة» هي نظرية وضعت لحل المشكلات القائمة المتعلقة بالاختلافات والعلاقات بين العقل والمادة. وباختصار، فإن نظرية راسل مفادها أن العالم لا يتألف جوهريا من الأشياء العقلية - كما يعتقد أتباع المذهب المثالي - ولا من الأشياء المادية - كما يعتقد أتباع المذهب المادي - بل من «أشياء حيادية» يتكون منها مظهر العقل والمادة كليهما. ووفقا لما يقوله راسل، فإنه قد تحول إلى اعتناق هذه النظرية عقب الانتهاء من المحاضرات التي تتناول مذهب الذرية المنطقية. وقد كتب عن آراء جيمس في عام 1914، ثم رفضها؛ وفي المحاضرات التي ألقاها عام 1918 أصبح متعاطفا أكثر، ولكنه كان لا يزال مترددا؛ إلا أنه اعتنق النظرية أخيرا في بحث بعنوان «عن القضايا» (1919)، واستخدمها كأساس لكتابه «تحليل العقل» في عام 1921. ونقح راسل النظرية بعض الشيء فيما بعد، ولكنني سأعتمد أساسا على كتاب «تحليل العقل» في هذا العرض السريع.
تقول الفلسفة الشعبية إن العقل والمادة مختلفان اختلافا شديدا، وإن الاختلاف يكمن في حقيقة أن العقول واعية فيما أن الأشياء المادية - مثل الأحجار - ليست واعية. ومن ثم فإن السؤال الذي يطرحه راسل هو: هل الوعي جوهر كل ما هو عقلي؟ وللإجابة عن هذا السؤال، على المرء أولا أن يكون لديه فكرة ما عن طبيعة الوعي. ويوحي التأمل في الأمثلة المعتادة للظواهر الواعية - الإدراك والتذكر والتفكير والاعتقاد - بأن السمة الأساسية للوعي هي أنه «لتكون واعيا» بأي من هذه الطرق يعادل «أن تكون واعيا بشيء ما». ويطلق الفلاسفة اسم «القصدية» على هذه الخاصية، وقد تسمى كذلك بالحيثية أو «حالة التوجيه». وهكذا فإن مفهوم الوعي هو مفهوم ارتباطي أساسا؛ أي إنه فعل من أفعال العقل - فعل إدراك أو اعتقاد أو ما شابه - مرتبط ب «شيء»، وهو الشيء المدرك؛ أي القضية التي تصدق. وفي الواقع، وفق بعض رؤى هذه النظرية - على سبيل المثال رؤية مينونج - تشترك في ذلك ثلاثة عناصر: الفعل والمحتوى والشيء. فعلى سبيل المثال، لنفترض أننا نفكر في كاتدرائية القديس بول في لندن. لدينا فعل التفكير؛ ولدينا طبيعة الفكرة التي تتناول كاتدرائية القديس بول وليس أي كاتدرائية أخرى، وهذا هو المضمون؛ ثم لدينا الشيء، وهو كاتدرائية القديس بول نفسها.
يرفض راسل هذه الآراء؛ فيقول أولا إنه لا يوجد ما يسمى «الفعل»؛ فحدوث مضمون أي فكرة هو حدوث للفكرة، ولا يوجد دليل تجريبي ولا ضرورة نظرية لوجود «فعل» إضافة إلى ذلك. وتحليل راسل للسبب الذي قد يدفع شخصا للتفكير بخلاف ذلك هو أننا نقول: «أنا » أعتقد كذا، وهو ما يوحي بأن التفكير هو فعل يؤديه فاعل. ولكنه يرفض ذلك لأسباب مشابهة للغاية للأسباب التي قدمها هيوم؛ إذ كان يرى أن مفهوم الذات هو وهم، وأنه من غير المسموح لنا من الناحية التجريبية أن نقول إنه يوجد ما هو أكثر من حزم الأفكار التي نقسمها على سبيل التيسير إلى «أنا» و«أنت».
Unknown page