ثم كانت الحرب العالمية الثانية؛ فأقبلت معها حضارة مادية عنيفة، ولم تكد تنقضي حتى كان كل شيء قد اضطرب في حياة المصريين المادية والعقلية والخلقية جميعا. وكان اضطراب الذوق بعد هذا كله، وبتأثير هذا كله شيئا لا بد منه ولا سبيل إلى اتقائه!
وربما كان أخص ما يمتاز به هذا الهجوم الذي غير الحضارة المصرية فغير الذوق المصري تغييرا عنيفا خطيرا، أنه تأثر بالعنصر الأمريكي أكثر مما تأثر بالعناصر الأوروبية ... فقد صحبنا الحضارة الأوروبية منذ أول القرن الماضي، بل منذ أواسط القرن الثامن عشر، وتأثرنا بمصاحبتها وتغيرت لها أخلاقنا وأذواقنا وحياتنا تغيرا شديدا، ولكن هذا التغير تم في اعتدال، لم يعنف بنا ولم يخرجنا عن أطوارنا بمقدار ما عنف بنا هذا التغير الطارئ بين الحربين، ومنذ أثيرت الحرب الثانية بنوع خاص، ومنذ انقضت هذه الحرب الثانية بنوع أخص.
وليس لهذا كله مصدر فيما أظن غير هجوم الحضارة الأمريكية المادية، والثقافة الأمريكية اليسيرة التي لا تعرف التعمق ولا التمحيص ولا الأناة، والتي تؤثر السرعة والمعرفة الخاطفة. ويمكن أن يقال: إننا مدينون لها بهذا الاضطراب الخلقي العنيف الذي ينعم به الجيل الناشئ، ويشقى به الجيل المنقرض، وتتعرض به مصر لخطر عظيم!
فإذا رأيت قيم الأشياء تتغير إلى هذا الحد الذي نشهده، وإذا رأيت الشباب لا يحفلون بشيء، ولا يتحرجون من شيء، ولا يتحفظون في قول أو عمل، وإذا رأيت الصحف تخوض فيما لم تتعود أن تخوض فيه من قبل، وعلى نحو مجاف لكل ما ألفنا من سماحة الخلق، وسجاحة الطبع، وصفاء النفوس، ورقة الأذواق، فاحمل هذا كله غير متردد ولا متهيب على هذه الحضارة الطارئة التي غزتنا بها أمريكا، فكانت بعيدة الأثر في حياتنا المادية والاقتصادية والأدبية، ومع ذلك تهافت الناس عليها تهافتا عنيفا وهم لا يشعرون. •••
وقد تسألني عما حملني على أن أتحدث إليك في الذوق وفي معناه وفي تطوره وفي فساده؟ فسل نفسك عما تقرأ، وعما ترى، فستجد في نفسك وستجد في نفس غيرك الجواب على هذا السؤال!
1947
خوف
لست أدري أين قرأت - بل لعلي أعلم أني قرأت في فصل طويل أراد به صاحبه تعريف مصر إلى أعضاء المؤتمر البرلماني الدولي الذين يزورون مصر في هذه الأيام - أن المصريين ديمقراطيون بالطبع، وأنهم أحرار بالطبع كذلك، لا يستطيعون أن يعيشوا إلا مستمتعين بالحرية الكريمة تحت ظل ممدود من الديمقراطية السمحة! وقد يكون هذا حقا، ولكن هناك حقا آخر لعله يكون أشد منه ثبوتا ووضوحا؛ وهو أن الإنسان يفسد كثيرا من جمال الطبيعة، ويغير كثيرا من حقائق الأشياء، تدفعه إلى ذلك مصالحه العاجلة أحيانا، ويدفعه إليه خطؤه في الحكم والتقدير أحيانا أخرى ... وأكبر الظن أن الإنسان قد حاول وما زال يحاول أن يفسد الطبيعة المصرية ويغير بعض الحقائق المصرية، فقد يكون المصري ديمقراطيا بطبعه، ولكن قد يوجد من المصريين أو من غير المصريين من يحد من هذه الديمقراطية حدا شديدا، أو يحولها إلى ما يناقض الديمقراطية من الخصال والأخلاق. وقد يكون المصري مطبوعا على الحرية، ولكن قد يوجد من المصريين أو من غير المصريين من يفسد هذا الطبع ويحوله إلى لون من الخنوع والخضوع ليس من الحرية في شيء.
وما أريد أن أمضي مع هذا التفكير إلى غايته فأبحث وأستقصي، وأنشر على القراء فصلا من هذه الفلسفة التي تصور أثر الإنسان المتحضر في إفساد الطبيعة الخيرة للناس؛ فهذا بحث قديم كثر فيه القول، واشتد حوله الجدال. وإنما أريد أن أقف عند جماعة محدودة من المصريين يمكن أن يحصيهم العد، وإن ألفت القراء إلى طبيعتهم الديمقراطية الحرة وإلى ما تصب عليهم الظروف والأحداث من الفساد المتصل الذي يحولها عن أصلها الجميل السمح إلى شيء آخر بعيد كل البعد عن السماحة والجمال، وهذه الجماعة هي جماعة الموظفين. وما أريد أن أسوء الموظفين ولا أن أشق عليهم ولا أن أؤذيهم في ذات أنفسهم، فأنا أقرر أنهم كغيرهم من المصريين: ديمقراطيون بالطبع، أحرار بالطبع، قد فطروا على ما شاء الله من كرم الأخلاق ورقة الشمائل وسماحة القلوب والنفوس، وإنما أريد أن أعتذر لهم أو أن أعتذر عنهم، أو قل أني أريد أن أرثي لهم وأرفق بهم، وأطلب إلى أصحاب السلطان مهما تكن أحزابهم أن يشملوهم بشيء من العطف والرفق والعناية، حتى لا تفسد طبيعتهم الديمقراطية، وحتى لا تتعرض فطرتهم الحرة إلى بعض ما تتعرض له من الشر الذي لا يؤذيهم وحدهم؛ وإنما يؤذي معهم الناس جميعا، ويصبح شيئا بغيضا يشبه الأمراض المعدية التي تتجاوز المرضى إلى الأصحاء!
هؤلاء الموظفون معرضون دائما لسخط أصحاب السلطان إذا تورطوا فيما لا يحبون، وأصحاب السلطان من الوزراء والرؤساء ناس كغيرهم من الناس، يخطئون ويصيبون، ويسرفون ويقصدون، ويجورون ويعدلون، والأصل أن لهم على الموظفين الذين يعملون معهم حقا؛ هو إنفاذ أمرهم في حدود النظم والقانون، فليس الموظف ملكا لرئيسه يجب أن يتصرف وفق هواه. وليس الموظف خادما لرئيسه ينبغي أن يجيبه إلى كل ما يريد. وليس الموظف موظفا عند وزيره أو رئيسه، وإنما هو موظف عند الدولة التي لا تمثل الحكومة وحدها؛ وإنما تمثل الحكومة والشعب جميعا ... وإذن، فليس على الموظف أن يميل مع أهواء الوزراء والرؤساء، ولا أن يطيعهم فيما يخالف النظم والقوانين، ولا أن يحب ما يحبون ومن يحبون، أو يكره ما يكرهون ومن يكرهون. وإنما الموظف إنسان حر حظه من الحرية كحظ الوزير والرئيس، لا يزيد عليه إصبعا ولا ينقص عنه أنملة.
Unknown page