1945
في الذوق
يقال إن الذوق ملاك الحضارة المترفة، ويقال من أجل ذلك إنه يوجد ويقوى ويشيع حيث يتاح للحضارة أن ترقى وتترف وتبسط سلطانها على النفوس. ويقال إنه من أجل ذلك يوجد في المدن أكثر مما يوجد في القرى، ويوجد في العواصم أكثر مما يوجد في مدن الأقاليم، ويوجد في القصور أكثر مما يوجد في الدور، ويوجد في الدور أكثر مما يوجد في الأكواخ.
يقال هذا، ويقال شيء كثير غير هذا حول الذوق، فالذوق يكون في الأدب والفن، والذوق يكون في الحياة الاجتماعية اليومية، والذوق يكون خصلة من خصال الفرد المترف الممتاز، ويكون خصلة من خصال الجماعة المثقفة المهذبة، ويكون خصلة من خصال الشعب الذي عظم حظه من الحضارة وإمعانه فيها. ويظهر أن المصريين قد سبقوا غيرهم من الشعوب إلى الحضارة وضروب الترف؛ فكان حظهم من الذوق عظيما، وقسطهم منه موفورا ... يقول المصري عن المصري إذا أراد أن يمدحه: «إنه صاحب ذوق»، ويقول المصري عن المصري إذا أراد أن يمدحه أيضا إنه «رجل ذوق» بالإضافة، «ورجل ذوق» بالوصف! ويقول المصري عن المصري إذا أراد أن يعيبه : إنه قليل الذوق، وعديم الذوق. ويقول الرجل من أهل القاهرة لصاحبه إذا فعل أو هم أن يفعل شيئا لا يليق: «استذوق»؛ يريد أن يقول له: اصطنع الذوق، وتجنب ما من شأنه أن يغض من ذوقك أو من امتيازك في الحضارة المترفة المهذبة التي تتيح للناس أن يعاشروا الناس، وأن يجدوا في معاشرتهم راحة ولذة وسرورا!
ويعرف بعض المعاجم الذوق: بأنه ملكة طبيعية تسبق التفكير، وتعين على تمييز الجيد من الرديء، والحسن من القبيح، وما يليق مما لا يليق.
ويقول هذا المعجم: إن لكل إنسان من هذا الذوق حظا، ولكن هذا الحظ يقوى ويضعف باختلاف ما يكون عليه الإنسان من ثقافة وحضارة وإتراف في العقل والقلب والضمير ... ويقال كذلك إن الذوق يتغير بما يصيب الحضارة من تطور، فيفسد بعد صلاح، ويقبح بعد حسن، ويشيع فساده وقبحه بمقدار ما يصيب الحضارة من ضعف وانحطاط. •••
وأكثر ما يفسد الذوق حين يطرأ على الحضارة المستقرة المطمئنة التي بعد بها العهد وألفتها النفوس وتوارثتها الأجيال طارئ عارض عنيف يغير من سيرة الناس في حياتهم المادية أولا، ثم في حياتهم العقلية بعد ذلك.
فالرجل المترف من أهل القاهرة في أول هذا القرن كان قد ورث عن أسرته ألوانا من الأخلاق والعادات تأثرت بها سيرته فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين أهله، وفيما بينه وبين الناس؛ فهو لا يظهر لأهله إلا في لون معين من لبسه المتفضل، وهو لا يتحدث إليهم إلا بألفاظ مختارة منتقاة، ثم هو لا يظهر للناس إلا في زينة أنيقة معتدلة قد لاءم بين دقائقها ملاءمة شديدة الاتساق والانسجام، وهو لا يتحدث إلى الناس إلا بألفاظ عذاب رقاق، وفي صوت معتدل لا يرتفع فيؤذي الآذان، ولا يسرف في الانخفاض فيشق على النفوس، وهو رفيق رقيق متأنق في إشاراته وفي حركاته، وهو حين يخرج من داره إلى عمله أو إلى زيارة صديق يتخذ عربته تلك المترفة، يجرها الجواد المترف، ويسوقها السائق الأنيق.
فلما تقدم القرن شيئا؛ تغيرت الدنيا، وهجمت الحضارة الغربية هجوما جعل يزداد عنفا من يوم إلى يوم، ثم بلغ أقصى غايات العنف بعد الحرب العالمية الأولى ... فأخذ المترفون من المصريين يتركون ترفهم القديم الأنيق الذي كانوا يعرفونه ويألفونه ويحسنون تنميقه والتأنق فيه إلى الترف الغربي الجديد الذي لم يعرفوه ولم يألفوه، ولم يتح لهم أن يفتنوا فيه؛ وإنما أخذوه كما هو، واندفعوا فيه غير متحفظين، فكانوا محدثين! وقد تغير تصورهم للحياة بتغير ما يحيط بهم من الأداء، فاضطربت أحكامهم على الأشياء، وساء تقديرهم للظروف، وتغير ذوقهم شيئا فشيئا.
وقل مثل هذا بالقياس إلى الحياة العقلية؛ فقد كان المصريون إلى أوائل هذا القرن أميل إلى المحافظة في ثقافتهم، يغذون عقولهم بالتراث العربي أكثر مما يغذونها بالتراث الأجنبي، ثم هجمت الثقافة الأجنبية هجوما لم يكن أقل عنفا من هجوم الحضارة الأجنبية، فاضطربت لهجومها العقول، واختلطت له الأمور، وتأثرث به الأخلاق، وتغير به الذوق، وكانت الموقعة الهائلة بين الأدب القديم والأدب الجديد. •••
Unknown page