أدرك كمال أنه لم يرحب بالسؤال، بل أنه لم يرحب بمقدمه كسالف عادته، فخجل وعانى قلقا لم يدر له سببا، وأراد أن يتقدم من الباب المغلق، ولكن صوت خليل أوقفه، وهو يهتف باقتضاب ينم عن الضجر: لا.
فتحول نحوه متسائلا، ولكن الرجل قال له في عجلة ولهوجة: انزل يا شاطر والعب تحت.
انكسرت نفس الغلام، فتقهقر متثاقلا بائخا، وقد عز عليه أن يجزى على عذاب انتظاره طوال اليوم هذا الجزاء البخس، ولما بلغ عتبة الصالة صك أذنيه صوت غريب آت من الحجرة المغلقة، بدأ رفيعا حادا عاليا، ثم غلظ وترهل حتى بح، وانتهى بحشرجة طويلة قاسية، ثم غاب لحظة مقدارها تردد النفس المقطوع، ثم بعث آهة عميقة شاكية، بدا له غريبا أول الأمر، كأنه لم يعرف صاحبه، ولكن نبرة من نبراته المعذبة تميزت وسط الحدة والغلظة والحشرجة، فوشت بهوية مصدره، صوت عائشة بلا ريب، أو هو عائشة مذابة منصهرة، ثم تأكد من ظنه عند تردد الآهة العميقة الشاكية، فارتعشت جوارحه، وخيل إليه أنه يراها تتلوى على حال من الألم دعت إلى مخيلته بصورة القطة القديمة، وعطف رأسه صوب خليل، فألفاه يقبض راحته ويبسطها وهو يتمتم: «يا لطيف يا رب»، فخيل إليه مرة أخرى أن جسم عائشة ينقبض وينبسط مثل راحة الرجل، لم يعد يملك من نفسه شيئا، فركض إلى الخارج مفحما في البكاء، وعندما انتهى إلى باب الحريم استرعى سمعه وقع أقدام هابطة وراءه، فرفع رأسه فرأى الجارية سويدان نازلة على عجل، فمرت به دون أن تنتبه إليه حتى وقفت على عتبة باب الحريم، ثم نادت سيدها إبراهيم فجاء الرجل مسرعا، فقالت له: «الحمد لله يا سيدي.» لم تزد على ذلك شيئا، ولم تنتظر حتى تسمع ما يقول، ولكنها دارت على عقبيها، وهرعت إلى السلم، فرقيت فيه دون تردد، رجع إبراهيم إلى المنظرة متهلل الوجه، فلبث كمال وحده لا يدري ما يفعل، ولكن لم تمض دقيقة حتى عاد إبراهيم يتبعه السيد أحمد فياسين، ثم فهمي، فتنحى الغلام جانبا حتى مروا، ثم صعد في أعقابهم خافق القلب، وقابل خليل الآتين أمام مدخل الشقة، فسمع أباه وهو يقول له: الحمد لله على السلامة ...
فغمغم خليل في وجوم: الحمد لله على كافة الأحوال!
فسأله السيد باهتمام: ما لك؟
فقال بصوت منخفض: إني ذاهب لاستدعاء الطبيب.
فتساءل السيد قلقا: المولود؟
فأجابه وهو يهز رأسه سلبا: عائشة! ... ليست على ما يرام، سأجيء بالطبيب حالا.
وذهب مخلفا وراءه وجوما وقلقا واضحين، ثم دعاهم إبراهيم شوكت إلى حجرة الاستقبال، فمضوا إليها صامتين، وجاءت حرم المرحوم شوكت بعد قليل، فسلمت وهي تبتسم لتدخل الطمأنينة إلى قلوبهم، ثم جلست وهي تقول: قاست المسكينة طويلا حتى أنهكت قواها، ولكنها حال عارضة وستزول وشيكا، إني واثقة مما أقول، ولكن ابني بدا اليوم خوافا على غير عادته، على أنه لا ضرر البته من مجيء الطبيب (ثم مناجية نفسها بصوت خفيض) الطبيب ربنا، وربنا هو الطبيب ...
لم يعد السيد يطيق ما يلتزم به عادة من وقار وبرود أمام أبنائه، فسألها في قلق غير خاف: ماذا بها؟ ... ألا أستطيع أن أراها؟
Unknown page