176

Bayn Qasrayn

بين القصرين

Genres

ثم التفت الشيخ متولي إلى السيد الذاهل، وضرب كفا على كف وهو يهتف: وساقوا بقية الضحايا إلى معسكر قريب، وهنالك أجبروهم على التوقيع على مكتوب يتضمن اعترافهم بجرائم لم يرتكبوها، وإقرارا بأن ما أنزله الإنجليز بهم جزاء حق على ما فعلوا، هذا ما حصل يا سيد أحمد للعزيزية والبدرشين، هذا مثل من أمثلة التنكيل التي نسامها بلا رحمة ولا شفقة، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد.

وساد صمت كئيب أليم خلا فيه كل إلى أفكاره وتخيلاته، حتى قطعه جميل الحمزاوي وهو يهتف متأوها: ربنا موجود.

فهتف السيد مؤمنا على قوله: نعم! (ومشيرا إلى الجهات الأربع) في كل مكان.

وخاطب الشيخ متولي السيد قائلا: قل لفهمي إن الشيخ متولي ينصحه بالابتعاد عن موارد التهلكة، قل له سلم إلى الله ربك؛ فهو القادر وحده على إهلاك الإنجليز كما أهلك من قبلهم ممن شقوا عصا طاعته.

ثم مال الشيخ نحو عصاه ليتناولها، فأشار السيد إلى جميل الحمزاوي، فجاءه بالهدية ووضعها في يده، ثم ساعده على النهوض. صافح الشيخ الرجلين ومضى وهو يقول:

غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ... صدق الله العظيم.

68

عند الغلس، ونور الصباح يولد رويدا من ظلمة الفجر، طرقت خادم من السكرية بيت السيد، فأخبرت أمينة بأن عائشة قد جاءها المخاض. كانت أمينة في حجرة الفرن، فعهدت بالعمل إلى أم حنفي وهرعت إلى باب السلم. بدا على أم حنفي الاستياء ربما لأول مرة في تاريخ خدمتها الطويل بهذا البيت، أما كان يحق لها أن تشهد ولادة عائشة؟ لها كل الحق ... كأمينة سواء بسواء، فتحت عائشة عينيها في حجرها، كل ابن في هذا البيت له أمان؛ أمينة وأم حنفي، كيف يحال بينها وبين ابنتها في هذه الساعة الرهيبة! ... هل تذكرين ولادتك؟ ... وربع الطمبكشية، كان المعلم في الخارج كعادته وكانت وحيدة بعد منتصف الليل، وجدت في أم حسنية صديقة وقابلة معا! ... ترى أين أم حسنية الآن؟ ... ألا زالت على قيد الحياة؟ ثم جاء حنفي بعد تأوهات الألم، ذهب بين تأوهات الألم أيضا، وهو في المهد، لو عاش لكان ابن عشرين الآن! ... سيدتي الصغيرة تتألم وأنا هنا أهيئ الطعام. امتلأ قلب أمينة بفرح موصول بإشفاق، هو الإحساس الذي خفق به قلبها أول مرة يوم استقبلت التجربة بنفسها. ها هي عائشة تتأهب لاستقبال أول مولود تستهل به أمومتها، كما استهلت هي أمومتها بخديجة، هكذا تمتد الحياة التي انبثقت منها إلى غير نهاية، ومضت إلى الأب فزفت إليه البشرى بنبرات رقيقة مهذبة، مبالغة هذه المرة في حيائها وتهذيبها أن يستشف وراء صوتها رغبتها الحارة في الانطلاق إلى ابنتها غير أن السيد تلقى الخبر في هدوء، ثم أمرها بالذهاب دون إبطاء! ... راحت ترتدي ملابسها على عجل، وقد شعرت بأن المزايا التي تكسبها امرأة ضعيفة مثلها بإنجاب الأطفال خليقة بصنع المعجزات أحيانا، وعلم الإخوة بالخبر عند استيقاظهم عقب ذهاب الأم بقليل. علت وجوههم ابتسامة، وتبادلوا نظرة متسائلة. عائشة أم! أليس ذلك غريبا؟ ما وجه الغرابة فيه. كانت نينة أصغر منها يوم ولدت خديجة، هل ذهبت نينة لتخرج الطفل بيديها؟ ابتسامتان. هذا نذير لي، عما قليل تلد بنت الكلب أيضا ... من تعني؟! زينب. آه لو سمعك بابا. عائشة أم، وأنا أب، وأنا خال وعم، ستكون أنت أيضا عما وخالا يا سي كمال، يجب أن أتخلف اليوم عن المدرسة لأذهب إلى آبلا عائشة. جميل جدا، استأذن بابا إن استطعت على المائدة! ... أوووه. نحن في حاجة إلى مزيد من المواليد لنسد العجز الذي أوقعه الإنجليز بنا ... لو تخلفت عن المدرسة ما حدث شيء غير عادي، ثلاثة أرباع التلاميذ مضربون أكثر من شهر. قل هذا لبابا وسيقتنع حتما بحجتك، فيضربك بطبق الفول في وجهك. أوووه. مولود جديد، بعد ساعة أو ساعتين يصير بابا جدا ونينة جدة ونحن أخوالا. شيء خطير، كم مولودا يا ترى يرى نور الدنيا في هذه اللحظة؟ ... وكم إنسانا يغيب عنه هذا النور في هذه اللحظة؟ ... يجب أن نبلغ جدتي. أستطيع أن أذهب إلى الخرنفش لإبلاغها إذا تخلفت عن المدرسة! قلنا لك لا شأن لنا بمدرستك، قل لبابا وسيرحب بفكرتك. أوووه. لعل عائشة تتألم الآن. مسكينة المحبوبة، إن الطلق لا يلين للشعر الذهبي والأعين الزرق، ربنا يقومها بالسلامة، عند ذاك نشرب المغات، ونشعل الشموع، ذكر أم أنثى؟ ... أيهما تفضل؟ ... الذكر طبعا، ربما بدأت بأنثى كأمها. لم لا تبدأ بذكر كأبيها؟ ها ها، عندما يحين ميعاد انصراف المدرسة يكون الطفل قد خرج، فلن أتمكن من مشاهدة خروجه. أتريد أن تراه وهو يخرج؟ طبعا. أجل هذه الرغبة حتى يكون المولود ابنك أنت! ... كان كمال أشد الجميع تأثرا بالخبر، شغل به عقلا وقلبا وخيالا، لولا شعوره برقابة ضابط المدرسة عليه، وأنه يحصي حركاته وسكناته، ليبلغها أول فأول إلى أبيه لما كان في وسعه أن يقاوم الإغراء الذي يناديه للذهاب إلى السكرية. ومكث في المدرسة جسدا بلا روح، هامت روحه في السكرية تتساءل عن القادم الجديد الذي ترقب مقدمه أشهرا، وهو يمني النفس بالاطلاع على سره المكنون. شهد مرة ولادة قطة وهو دون السادسة؛ إذ استرعت انتباهه بموائها الحاد، فهرع إليها تحت عرش اللبلاب فوق السطح، فوجدها تتلوى ألما وقد جحظت عيناها، ثم رأى جسمها يتصدع عن فلذة ملتهبة، فتراجع متقززا وهو يصرخ بأعلى صوته. طافت هذه الذكرى بمخيلته وألحت عليه حتى عاوده تقززه القديم، وانتشرت حوله مضجرة مقلقة كالضباب. غير أنه لم يستسلم للخوف، أبي أن يتصور أن ثمة علاقة بين القطة وعائشة إلا ما يكون بين الحيوان والإنسان وهو - في إيمانه - أبعد مما بين الأرض والسماء، ولكن ماذا يحدث في السكرية إذن؟ ... ماذا طرأ على عائشة من غرائب الأمور؟ ... ثمة أسئلة حيارى لا تنعم بجواب ... ما كاد يغادر المدرسة عصرا، حتى اندفع يقطع الطريق عدوا إلى السكرية.

دخل فناء بيت آل شوكت وهو يلهث، ومضى إلى باب الحريم، فلاحت منه التفاتة إلى المنظرة، فما يدري إلا وعيناه تلتقيان بعيني والده الذي جلس شابكا راحتيه على مقبض عصاه القائمة بين رجليه. تسمر في مكانه جامدا محملقا كأنما نوم تنويما مغناطيسيا، لم يطرف ولم يبد حراكا، ركبه شعور بالذنب لا يدريه، فلبث يترقب انقضاض العقاب عليه وبرودة الخوف تسري في أطرافه، حتى اشتبك السيد أحمد في حديث مع شخص يجلس إلى جانبه، فالتفت نحوه، فاسترد كمال عينيه وهو يزدرد ريقه، عند ذلك لمح في داخل المنظرة إبراهيم شوكت وياسين وفهمي قبل أن يفر إلى الداخل، رقي في السلم وثبا، حتى انتهى إلى دور عائشة، فدفع بابا مواربا، ودخل فالتقى بخليل شوكت زوج أخته واقفا في الصالة، ورأى باب حجرة النوم مغلقا، وقد ترامى من ورائه إلى سمعه أصوات تتحادث ميز منها أمه وحرم المرحوم شوكت، وصوتا ثالثا لا يعرفه، سلم على زوج أخته، ثم سأله وهو يتطلع إليه بطرف باسم: آبلا عائشة ولدت؟

فرفع الرجل سبابته إلى شفتيه محذرا، وهو يقول: هس.

Unknown page