فقالت عائشة بلهجة المعتذر: لم يكن سي فهمي وحده الذي خدع بها، كلنا خدعنا بها.
فقالت خديجة مدافعة عن نفسها - بأقصى ما في وسعها - تهمة الغفلة: على أي حال أنا لم أقتنع لحظة واحدة فيما مضى، حتى مع اعتقادي ببراءتها، بأنها جديرة به.
فعاد فهمي يقول متظاهرا بالاستهانة: هذه مسألة قديمة عفاها النسيان، إنجليزي ... مصري ... سيان، دعونا من هذا كله.
وجد ياسين نفسه تعاود التفكير في «مسألة» مريم ... مريم؟! ... لم يكن ينظر إليها فيما مضى - إن مرت في مجال بصره - إلا عابرا، ثم زاده زهدا فيها تعلق فهمي بها، حتى ذاعت فضيحتها في الأسرة ... هناك ثار اهتمامه، تساءل طويلا أي فتاة هي؟ ود لو ملأ عينيه منها، تمنى لو كان سبر الفتاة التي استرعت تشوق «إنجليزي» ... إنجليزي جاء الحي مقاتلا لا مغازلا، لم يبد سخطه عليها إلا مجاراة للحديث كلما تناولها، أما في الباطن فقد أطربه غاية الطرب وجود «مفضوحة» جريئة مثلها على كثب منه، فلا يفصله عنها إلا جدار، شاع في صدره العريض المكتنز ذاك الطرب البهيمي الذي يدعوه إلى الصيد، وإن وقف - إكراما لحزن فهمي الذي يحبه - عند حد الشعور واللذة السلبية المجردة، لم يعد في الحي من يستثير اهتمامه كمريم. - آن أوان الذهاب.
قالت خديجة ذلك وهي تنهض على حين ترامى إليهم صوتا إبراهيم وخليل وهما يتحدثان قادمين من الردهة الخارجية. قام الجميع، من يتمطى ومن يحبك ملابسه، إلا كمال فقد لزم مجلسه وهو يتطلع إلى باب الصالة بحزن وقلب خافق.
67
جلس السيد أحمد إلى مكتبه، مكبا على دفاتره، يزاول عمله اليومي الذي يتناسى به - ولو إلى حين - همومه الشخصية والهموم العامة التي تتطاير بها الأنباء الدامية. غدا يحب الدكان حبه مجالس الأنس والطرب؛ لأنه على الحالين يظفر بما ينتزعه من جحيم الفكر، إلا أن جو الدكان حافل بالمساومة والبيع والشراء والربح، وغير ذلك من شئون الحياة العادية، حياة كل يوم، فلا تخلو من أن تبعث في نفسه شيئا من الثقة الموحية بإمكان عودة كل شيء إلى أصله، إلى حالته الأولى من الاستقرار والسلام. السلام؟ أين ذهب ومتى يأذن بالعودة؟! ... حتى في هذا الدكان تجري أحاديث الدماء همسا مفجعا، لم يعد الزبائن يقنعون بالمساومة والشراء، فما تألو ألسنتهم أن تردد الأنباء، وتندب الأحداث، فوق زكائب الأرز والبن سمع عن معركة بولاق، ومذابح أسيوط، والجنازات التي تشيع فيها النعوش بالعشرات، والشاب الذي انتزع من العدو مدفعا رشاشا أراد أن يدخل به الأزهر، لولا أن سبقته المنية، فانغرست في جسمه عشرات المقذوفات، هذه الأنباء وغيرها مما يصطبغ بلونها القاني تقرع أذنيه بين حين وآخر في المكان الذي يلوذ به ناشدا النسيان. ما أتعس الحياة في ظل الموت، هلا عجلت الثورة بتحقيق غايتها من قبل أن يمتد أذاها إليه أو إلى أحد من ذويه! ... إنه لا يبخل بمال، ولا يضن بعاطفة، أما بذل الحياة فأمر آخر، أي عذاب صبه الله على العباد فهانت النفوس وجرت الدماء! لم تعد الثورة «فرجة» حماسية، إنها تهدد أمنه في الذهاب والإياب، وتتوعد ابنه «العاصي». فتر حماسه لها، هي دون غايتها، يحلم بالاستقلال وبعودة سعد، ولكن دون ثورة أو دماء أو ذعر، يهتف مع الهاتفين ويتحمس مع المتحمسين، ولكن عقله يقاوم التيار متعلقا بالحياة، فمكث وحده في المجرى كأصل شجرة اقتلعت العواصف أغصانها، لن يوهن شيء، وإن جل، من حبه للحياة، فلتبق له إلى آخر العمر، وليؤمن فهمي إيمانه لتبقى له حياته إلى آخر العمر كذلك، فهمي العاق الذي رمى بنفسه إلى التيار بلا حزام نجاة ... - هل السيد أحمد موجود؟
سمع السيد صوت السائل وهو يشعر باندفاع شخص داخل الدكان، كأنه مقذوف آدمي، فرفع رأسه عن مكتبه فرأى الشيخ متولي عبد الصمد يتوسط المكان رامشا بعينيه الملتهبتين مدققا النظر - عبثا - صوب المكتب، فهش قلبه وابتسمت أساريره، ثم هتف بالقادم: تفضل يا شيخ متولي، حلت البركة.
فلاح الاطمئنان في وجه الشيخ، وتقدم يهتز أعلاه ما بين الوراء والأمام كأنه راكب جملا، فمال السيد فوق مكتبه، ومد يده حتى التقت بيد الرجل وشد عليها متمتما «الكرسي على يمينك، تفضل بالجلوس.» فأسند الشيخ متولي عصاه إلى المكتب، وجلس على الكرسي، ثم اعتمد بيديه على ركبتيه وهو يقول: الله يحفظك ويصونك.
فقال السيد من قلبه: ما أطيب دعاءك وما أحوجني إليه!
Unknown page