كانت شبعت من مهاجمته فأجابته جادة: سيجيء بإذن الله شبيها بأبيه أو جده أو جدته أو خالته، أما ... (ثم ضاحكة) أما إذا أبى إلا أن يجيء شبيها بأمه، فالنفي يكون أحق به من سعد باشا!
ولكن كمال قال بلهجة خبير عليم: الإنجليز لا يهمهم الجمال يا آبلا ، إنهم يعجبون كثيرا برأسي وأنفي.
فضربت خديجة صدرها بيدها هاتفة: يدعون صداقتك وهم يعبثون بك! ... ربنا يسلط عليهم زبلن من جديد.
ورمت عائشة فهمي بنظرة رقيقة وهي تقول: كم يسر دعاؤك بعض الناس.
فابتسم فهمي مغمغما: كيف أسر ولهم في بيتنا أصدقاء مغفلون؟ - يا خسارة تربيتك له. - من الناس من لا تنفع فيه التربية.
فتساءل كمال محتجا: ألم أرج جوليون أن يعيد سعد باشا؟
فقالت خديجة ضاحكة: في المرة القادمة حلفه برأسك الذي يعجب به.
شعر فهمي أكثر من مرة بأن من حوله يسعون كلما بدت فرصة إلى استدراجه إلى الحديث والتسلية، بيد أن ذلك لم يجد شيئا في التخفيف من الإحساس بالغربة الذي غشيه طوال الوقت. هو إحساس كثيرا ما يفصله عن آله وهو بينهم، فيشعر بالغربة أو الوحدة رغم زحمة المجلس، ينفرد بقلبه وحزنه وحماسه بين أناس لاهين ضاحكين، حتى نفي سعد يتخذون منه دعابة إذا لزم الأمر ... اختلس منهم النظرات تباعا فوجدهم راضين، عائشة ... هانئة وإن تكن تعبت قليلا بسبب الحمل، ولكنها سعيدة بكل شيء حتى بتعبها، خديجة ... متوثبة ضاحكة، ياسين ... صحة وعافية وغبطة، من من هؤلاء يكترث لحوادث هذه الأيام! من منهم يهمه بقي سعد أم نفي، جلا الإنجليز أم مكثوا! إنه غريب، أو غريب على الأقل بين هؤلاء. ومع أن هذا الإحساس كان يلقى منه عادة نفسا مسماحة، فإنه لم يلق هذه المرة إلا حنقا وامتعاضا، ربما كان ذلك لما عاناه في الأيام الأخيرة. كثيرا ما توقع أن يسمع عن زواج مريم، كان ذلك همه وكربه، بيد أنه سلم به سلفا تسليم اليأس، وكاد يألفه بكرور الأيام، إلا أن حبه نفسه تراجع عن بؤرة شعوره الذي شغلته الشواغل الكبرى، حتى وقعت واقعة جوليون فزلزل زلزالا. تغازل إنجليزيا لا مطمع لها في الزواج منه فأي معنى تتضمنه هذه المغازلة؟ هل تصدر إلا عن متهتكة؟ مريم متهتكة؟ وفيم كانت أحلامه الماضية؟ ولم يكن يخلو بكمال حتى يدعوه إلى إعادة القصة من جديد محتما عليه أن يصف التفاصيل بدقة، كيف لاحظ ما يدور، وأين كان موقف الجندي، وأين كان موقفه هو، وهل هو متأكد من أن مريم نفسها التي كانت في الكوة؟ وأنها كانت تنظر حقا إلى الجندي؟ وهل رآها تبتسم إليه، وهل وهل وهل، ثم يسأله وهو يعض على أسنانه كأنما يهرس الشقاء الذي يعذبه: وهل تراجعت في خوف حين وقعت عيناها عليك؟ ثم يمضي متخيلا المواقف والمناظر، موقفا موقفا، ومنظرا منظرا، ويتخيل الابتسامة طويلا حتى كأنه يرى الشفتين المفترتين كما رآهما يوم زفاف عائشة، وصاحبتهما تتبع العروس في فناء بيت آل شوكت. - يبدو أن نينة لن تجالسنا اليوم.
قالته عائشة بصوت يدل على الأسف.
فقالت خديجة: الزوار يملئون البيت.
Unknown page