وربت على رأس كمال ضاحكا، ولكن أمينة عادت تقول بتوسل حار: أستحلفكم بالله أن تغيروا مجرى الحديث.
ابتسم ياسين ولم ينبس، فأطبق الصمت. لم يعد فهمي يتحمل البقاء بينهم، فاستجاب إلى الصوت الباطني الذي يستصرخه ملهوفا على الفرار ... بعيدا عن الأنظار والأسماع، هنالك يستطيع أن يخلو إلى نفسه، أن يعيد إليها الحديث من ألفه إلى يائه، كلمة كلمة، عبارة عبارة، جملة جملة؛ ليفهمه ويتفهمه، ثم ينظر أين يكون موضعه.
65
كان الليل قد جاوز منتصفه عندما غادر السيد أحمد عبد الجواد بيت أم مريم متلفعا بظلمة العطفة المسدودة. بدا الحي كله - كما أمسى يبدو مع الهزيع الأول من الليل مذ عسكر الإنجليز فيه - غارقا في النوم متدثرا بالظلام، لا مقهى يسمر، ولا بائع يسرح، ولا دكان يسهر، ولا مار يدب، فلم يكن فيه أثر للحياة أو النور إلا ما انبعث من المعسكر، ومع أن أحدا من الجنود لم يتعرض له بسوء في الذهاب أو الإياب، إلا أنه لم يكن يخلو قط في قلق وتوجس كلما اقترب من المعسكر في طريقه إلى البيت، خاصة وأنه يعود - آخر الليل - على حال من الإعياء والاسترخاء والذهول، يشق معها مجرد التفكير في السير الآمن المطمئن، انحدر إلى طريق النحاسين، ثم انعطف يمنة متجها إلى البيت وهو يختلس النظر إلى الديدبان، حتى دخل أشد مناطق الطريق خطورة ... تلك التي ينتشر فيها النور المنبعث من قلب المعسكر، هنالك عاوده الإحساس الذي يخامره كلما دخلها، وهو أنه هدف يسير لأي صائد، فحث خطاه ليخرج منها إلى الظلام المفضي إلى مدخل بيته، ولكنه ما كاد يخطو خطوة، حتى صك أذنيه صوت أجش غليظ، يزعق وراءه راطنا، فأدرك على جهله رطانته - من عنف اللهجة واقتضابها - أنه رماه بأمر لا يقبل المناقشة، فتوقف عن السير، والتفت وراءه مرتاعا فرأى جنديا - غير الديدبان - يتجه نحوه بقوة شاكي السلاح، ماذا جد حتى دعا إلى هذه المعاملة؟ ... أيكون الرجل ثملا؟ أم لعله أذعن لنزوة اعتداء طارئة؟ أم هو يبتغي السلب والنهب؟ جعل يرقب اقترابه بقلب خافق وحلق جاف، وقد طار الخمار من رأسه. وقف الجندي على بعد خطوة منه ثم وجه إليه بلهجة آمرة كلاما سريعا قصيرا - لم يفهم منه بطبيعة الحال كلمة واحدة - وهو يشير بيده الخالية صوب شارع بين القصرين، فحملق السيد في وجهه بيأس واستعطاف، وهو يعاني مرارة العجز عن التفاهم معه كي يقنعه ببراءته مما يتهمه به، أو كي يعرف على الأقل ما يريد، ثم خطر له أنه قصد بإشارته إلى بين القصرين أن يأمره بالابتعاد ظنا منه أنه غريب، فراح يشير إلى بيته بدوره ليفهمه أنه من سكانه، وأنه عائد إليه، ولكن الجندي تجاهل حركته وهو يدمدم، ثم أصر على إشارته وهو يهز رأسه في نفس الاتجاه، كأنما يحثه على الذهاب، ثم بدا أنه ضاق به فقبض على منكبه وأداره بقوة، فدفعه في ظهره، فوجد السيد نفسه يتحرك متجها نحو بين القصرين والآخر وراءه، فاستسلم - ومفاصله تكاد تسيب - إلى المقادير، جاوز في مسيره المجهول المعسكر، ثم سبيل بين القصرين، وهناك اختفى آخر أثر للضوء المنبعث من المعسكر، فخاض أمواج الظلام الدامس والصمت الثقيل، لا منظر يرى إلا أشباح البيوت، ولا صوت يسمع إلا وقع القدمين الغليظتين اللتين تتبعانه في نظام ميكانيكي كأنهما يعدان الدقائق الباقية له في الحياة، ولعلها ثوان، أجل كان يتوقع في أية لحظة أن ينقض عليه بخبطة تهوي به إلى النهاية، فمضى يترقبها بعينين محملقتين في الظلام، وفم مطبق من الجزع، وحرقوة تتحرك حركة عصبية من آن لآن كلما ازدرد ريقه الجاف الملتهب، حتى بوغت بوميض يجذب بصره إلى أسفل، فكاد يصرخ كالأطفال من الهلع، وقد تهاوى قلبه ولكنه تبينه دائرة من الضوء تذهب وتجيء، فأدرك أنها شعاع من بطارية أضاءها سائقه ليتعرف على طريقه خلال الظلمات. استرد أنفاسه بعد أن تخفف من الذعر المباغت، ولكنه لم يستشعر نسمة راحة حتى تلقفه خوفه الأول، خوف الموت الذي يساق إليه، فعاد يترقب حتفه بين لحظة وأخرى، كأنه غريق توهم في تخبطه أنه يرى تمساحا يتوثب لمهاجمته، ثم تبين له أن ما رأى أعشاب طافية، ولكن فرحته للنجاة من الخطر الوهمي لم تكد تتنفس حتى اختنقت تحت ضغط الخطر الحقيقي المحيط به، إلى أين يسوقه؟ لو يستطيع أن يراطنه فيسأله! يبدو أنه سيواصل سوقه حتى يدفع به إلى قرافة باب النصر، لا أثر لإنسان ولا لحيوان، أين الغفير؟ وحيد تحت رحمة من لا يرحم، متى كان مثل هذا العذاب ... هل يذكر؟ الكابوس ... أجل إنه الكابوس. كابده أكثر من مرة خلال نوم مريض، إن ظلمة الكابوس نفسها لا تخلو أحيانا من بارقة أمل قد يشرق بنفس النائم إحساس حنون بأن ما يعانيه حلم لا حقيقة، وبأنه سينجو من شره الآن أو بعد حين، هيهات أن يجود الدهر بمثل ذلك الأمل، إنه صاح لا نائم، وهذا الجندي الشاكي السلاح حقيقة لا خيال، وهذا الطريق الذي يشهد ذله وأسره شيء ملموس مخيف لا وهم، عذابه حقيقة لا سبيل إلى الشك فيها، إن أقل حركة ممانعة تند عنه خليقة بأن تطيح رأسه ... لا سبيل إلى الشك في هذا أيضا. قالت له أم مريم وهي تودعه: «إلى الغد» الغد؟! هل يطلع ذلك الغد؟! سل القدمين الثقيلتين اللتين ترجان الأرض وراء ظهرك ... سل البندقية ذات السونكي الحاد المدبب، قالت له أيضا وهي تمازحه: «تكاد رائحة الخمر المتطايرة من فيك أن تسكرني.» الآن طارت الخمر وطار عقله، ولت ساعة الصبوة، منذ دقائق معدودة ... كانت الصبوة كل شيء في الحياة. الآن العذاب هو كل شيء ... وليس بين هذا وذاك إلا دقائق معدودة، دقائق معدودة؟! ... عندما بلغ منعطف الخرنفش جذب عينيه شعاع يومض في الظلام، فلحظ الطريق، فرأى بطارية تتحرك في يد جندي آخر يسوق بين يديه أشباحا لم يتبين عددهم! ... تساءل ترى هل صدرت إلى الجنود أوامر بالقبض على من يصادفون من الرجال ليلا؟! ... وإلى أين يسوقونهم؟ ... وأي عقاب سيقضون به عليهم؟ تساءل طويلا وهو من الدهش والانزعاج في نهاية، بيد أن رؤيته للضحايا الجدد أدخلت على قلبه شيئا من العزاء والارتياح، لم يعد على الأقل وحيدا كما كان يظن، وجد في بلواه أندادا يؤنسون وحشته ويشاركونه المصير، كان يتقدم قافلتهم بمسافة قصيرة، فراح ينصت إلى وقع أقدامهم مستأنسا إليها كما يستأنس الضال في مفازة إلى أصوات آدمية ترامت إليه مع الريح، ولم تكن أمنية أعز على نفسه آنئذ من أن يلحقوا به لينضم إلى جماعتهم، سواء كانوا معارف أو غرباء، لتخفق قلوبهم معا وهم يحثون الخطى نحو المصير المجهول. هؤلاء الرجال أبرياء وهو بريء ففيم القبض عليهم؟ فيم القبض عليه هو مثلا؟ لا هو من الثوار ولا من المشتغلين بالسياسة، ولا حتى من الشبان فهل يطلعون على الأفئدة ويحاسبون على المشاعر؟ ... أو تراهم يعتقلون أفراد الشعب بعد أن فرغوا من اعتقال الزعماء! لو كان يعرف الإنجليزية فيسأل آسره؟ ... أين فهمي ليحادثه نيابة عنه؟ ... وخزه الألم والحنين، أين فهمي وياسين وكمال وخديجة وعائشة وأمهم؟ هل يمكن أن تتصور أسرته ما آل إليه حاله من هوان، وهي التي لم تره إلا جبارا عزيزا جليلا؟ هل تتصور أن جنديا دفعه بعنف، حتى أوشك أن يطرحه أرضا وأن يسوقه كما تساق السائمة؟ وجد لذكر آله ألما وحنينا، فكادت تدمع عيناه. كان يمر في طريقه بأشباح بيوت ودكاكين يعرف أصحابها، ومقاه كان يوما - خاصة عهد الصبا والشباب - من سمارها، فأحزنه أن يمضي بها أسيرا دون أن تنهض لنجدته، أو حتى ترثي لحاله، شعر حقا بأن أحزن صنوف الهوان ما حاق به في حيه، ثم رفع عينيه إلى السماء باعثا بفكره إلى الله المطلع على قلبه، بعث إليه بفكره دون أن يجري له ذكرا على لسانه، ولو همسا مستحييا من أن ينطق باسمه، وجسمه لم يتطهر من أنفاس الشراب وعرق الغرام، وما لبث أن تضاعف خوفه من أن يباعد دنسه بينه وبين النجاة، أو أن يلقى مصيرا كفاء لما سلف من استهتاره، فغشي صدره تطير وكآبة، وأشفى على اليأس، حينما شارف سوق الليمون ترامى إلى الصمت الذي لا يؤنسه إلا وقع أقدام أصوات مبهمة، فأرهف محملقا في الظلام - وهو يتقدم بين الخوف والرجاء - فتناهت إلى أذنيه لجة لم يدر إن كان مصدرها إنسان أو حيوان، غير أنه تبين بعد قليل لغطا، فلم يتمالك أن قال لنفسه في لهفة: «أصوات آدمية!» ومال مع الطريق، فلاحت لعينيه أضواء متحركة حسبها بادئ الأمر بطاريات جديدة، ولكنها وضحت مشاعل رأى على نورها جانبا من بوابة الفتوح يقف تحته جنود بريطانيون، ثم تراءى له جنود من البوليس المصري رد منظرهم إلى صدره الدماء، سأعرف ما يراد بي، لم يبق إلا مسيرة خطوات، ماذا دعا إلى تجمهر الجنود الإنجليز والمصريين عند البوابة؟ لماذا يسوقون الأهالي من شتى أنحاء الحي؟ عما قليل أعرف كل شيء، كل شيء؟ فلأستعذ بالله ولأسلم إليه أمري، سأذكر هذه الساعة الرهيبة مدى العمر إن كان في العمر بقية، الرصاص ... المشنقة ... دنشواي ... أأنضم إلى سجل الشهداء؟ أأصبح نبأ من أنباء الثورة يتناقله محمد عفت وعلي عبد الرحيم وإبراهيم الفار، كما كنا نتناقل الأخبار في سهرات المساء؟ تصور السهرة ومكانك شاغر؟ رحمة الله عليك ... كان وكان ... لشد ما يبكونك، وسيتذكرونك طويلا، ثم تنسى، ما أشد اضطراب قلبي، سلم أمرك للذي خلقك، اللهم حوالينا ولا علينا. ما إن اقترب من موقف الجنود حتى اتجهت الأنظار إليه باردة قاسية متوعدة، فغاص قلبه في الأعماق مخلفا وراءه في الأضلع ألما حادا، ترى هل آن له أن يتوقف؟ تثاقلت قدماه ولفه التردد والحيرة. - ادخل.
هتف بها شرطي وهو يشير إلى داخل البوابة، فنظر السيد إليه نظرة ناطقة بالتساؤل والاستعطاف والاستغاثة، ثم مر بين الجنود لا يكاد يرى ما بين يديه من شدة الفزع، ويود لو يغطي رأسه بذراعيه استجابة لغريزة الخوف التي تستصرخه. هنالك تحت قبة البوابة رأى منظرا عرفه بما يراد به بغير حاجة إلى سؤال، رأى حفرة عميقة كالخندق تعترض الطريق، كما رأى جمهورا من الأهالي يعملون بلا توقف، وتحت إشراف الشرطة لسد الحفرة بأن يحملوا الأتربة في مقاطف ويفرغونها فيها، الكل يعمل بهمة وسرعة، والأعين تسترق النظر في خوف إلى الجنود الإنجليز الذين رابطوا عند مدخل البوابة. اقترب منه شرطي ورمى إليه بمقطف وهو يقول بصوت غليظ ينم عن وعيد: افعل كما يفعل الآخرون ... ثم همسا: أسرع حتى لا يصيبك أذى.
كانت هذه الجملة أول تعبير «إنساني» يلقاه في رحلته المخيفة، فسرت في صدره سرى النسمة في حلق المختنق، انحنى على المقطف، فتناوله من علاقته وهو يسأل الشرطي همسا: هل يطلق سراحنا إذا تم العمل؟
فأجابه بنفس الصوت: إن شاء الله.
تنهد من الأعماق، راودته نفسه على البكاء، شعر بأنه يولد من جديد .. رفع بيسراه الجبة من طرفها، ودسه في حزام القفطان كي لا تعوقه عن العمل، ومضى بالمقطف إلى طوار البوابة، حيث تراكمت الأتربة فوضعه بين قدميه، وراح يملأ كفيه بالتراب ويفرغها في المقطف، حتى امتلأ ثم حمله بيده، وذهب إلى الحفرة فأفرغه فيها وعاد إلى الطوار، واصل العمل بين جماعات من الناس ضمت الأفندية والمعممين، الهرمين والشبان، يعملون جميعا بهمة عالية مستمدة من رغبتهم في الحياة، وإنه ليملأ مقطفه إذ لكزه كوع فالتفت إلى مصدره، فرأى صديقا يدعى غنيم حميدو صاحب معصرة زيوت بالجمالية ممن يلمون بمجالس لهوه بين حين وآخر، ففرح به فرحة عظمى كما فرح به الآخر، وسرعان ما تهامسا: أنت وقعت أيضا! - قبلك ... وصلت قبيل منتصف الليل، ورأيتك وأنت تتسلم مقطفك، فجعلت في ذهابي وإيابي أتبع طريقا يميل إليك رويدا رويدا حتى جاورتك. - أهلا .. أهلا، أليس ثمة أحد من أصدقائنا؟! - لم أعثر على غيرك. - قال لي الشرطي أنهم سيطلقون سراحنا حالما نتم العمل. - قيل لي ذلك أيضا، ربنا يسمع منك. - سيبوا ركبي الله يخرب بيوتهم. - لم تعد لي ركب على ما أظن!
وتبادلا ابتسامة مقتضبة. - ما أصل هذه الحفرة؟ - يقال إن فتوات الحسينية حفروها أول الليل؛ ليمنعوا مسير اللوريات، ويقال أيضا أن لوريا وقع فيها! - إن صح هذا فقل علينا السلام!
وعندما تجاورا مرة ثانية عند كوم الأتربة كانا قد ألفا الموقف بعض الشيء، فعاودتهما الروح، حتى إنهما لم يتمالكا أن ابتسما وهما يملآن مقطفيهما بالتراب كعمال البناء، فهمس غنيم: حسبنا الله ونعم الوكيل على أولاد الكلب.
Unknown page