178

وما ظنك أيها القارئ بمسجد ليس فيه من الحصير ما يقي الجالسين عنت الرطوبة التي تكمن في مثل هذا المكان الذي ينخفض عن الشارع مترين في بعض نواحيه؟ وماذا عسى أن أجيب به هؤلاء الزائرين إذا قال قائلهم: ما بال طلبة العلم عندكم يجلسون على الحجر العاري من الغطاء؟ وكيف أصبر على نظراتهم إلى الطلبة الذين يتململون من قسوة المكان الذي يجلسون فيه ساعات وهو قاتل؟

وكم تمنيت وقتئذ لو أن أعضاء المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية حضروا هذه الزيارة الجميلة؛ ليشرحوا لهؤلاء الأجانب السبب في جعل الأزهر مقبرة لطائفة كبيرة من الطلاب، ولعل منهم من درس في الجامعات الأوروبية أو الأمريكية ورأى في أبهة تلك الجامعات ما يصرف الطلبة عن العلم الصحيح، فيبين للزائرين فضل الخشونة على العلم! ويكشف الغطاء عن الصلة بين الظلمة التي تغشى جوانب الأزهر وبين نور العلم الذي يهديه للناس!

هاتوا شبابي أيها الرؤساء؛ فقد ذهبت به أيام الأزهر السوداء، هاتوا أملي فقد ذوت أغصانه في ذلك البيت العتيق.

كانت هذه الخطرات تمرح في ثنيات نفسي وأنا أصحب أولئك الزائرين، وكنت كلما غلب علي الخجل لبعض دلائل الإهمال، أرفع بصري إليهم وأقول بصوت خافت: «لقد فكر أولو الأمر في إصلاح الأزهر وسيفرشونه بالأبسطة الفارسية بعد حين»، غير أن هؤلاء الفرنسويين على جانب عظيم من أدب الخطاب فكانوا يقولون: «إن التجهم الذي يستقبل به الأزهر زائريه قطعة من جماله؛ لأنه يمثل عهدا من عهود التاريخ.»

مرحى مرحى! يسركم منظر الأزهر؛ لأنكم ترون فيه مظهرا من مظاهر الحضارة القديمة، وما يضيركم لو أصبح المشرق كله رواية تاريخية تقرءون حديثها في كتب الغرب، وتنظرون أشخاصها في مصر وفي فارس.

6

وإن تعجب فعجب قول بعض الأزهريين: اجتهد في أن تفهم أن الأزهر أقدم جامعة علمية، ألا فلتطمئنوا من هذه الناحية، فقد أفهمتهم أن الحضارة الشرقية أصل للحضارة الغربية، وأن الأزهر مصدر العلم الذي ينعمون به الآن ... ولكن هل أستطيع أن أقول لهم: إن نظام الأزهر خير من نظام السوربون، وإن الحصير الممزق الذي يجلس عليه الطلبة هنا خير من الأرائك التي تتكئون عليها هناك، وإن الأحجار المنثورة حول الأزهر، يتعثر فيها الطلبة في الغدو والرواح، أجمل من الحدائق المحدقة بالسوربون يشم شذاها الطلبة في الضحى والأصيل، وإن الكتب المملوءة بالأغلاط، والتي ترد البصر وهو حسير، أنفع من الكتب الممتعة النفيسة التي يقرأها الفرنسيون؟ وهل أستطيع أن أقول: إن جامعة الأزهر في بؤسها الشامل، خير من جامعة باريس في نعيمها السابل؟!

حقا إن فينا من يقنع من المجد بالطلل الدارس، والرسم الطامس، وفينا من يرضى باللفظ وإن باد معناه، ويقنع بالاسم وإن ضاع مسماه، فيا رحمة الله لهذه الأمة الآفلة النجم العازبة الحلم!

7

مشينا ننظر ذات اليمين وذات الشمال؛ لنتبين في وجوه الطلاب دلائل الجد والنشاط، وأنا أعلم أنه ليس للطالب الأزهري مثيل في صبره على أعباء الحياة العلمية، وكذلك راقنا منظر أولئك الجادين في البحث والتنقيب، وسرني أن لهؤلاء الفرنسويين معرفة باللغة العربية حتى لا يصح لديهم أن الكتب التي بأيدي الطلاب تماثل ما في شكل الأزهر من الغلظة والجفاء.

Unknown page