كانت هذه الأسرة تتألف من عضوين اثنين: امرأة قد تقدمت بها السن حتى جاوزت الستين، وأصبح من العسير بل من المستحيل أن تتخذ لغة القاهرة وتصطنع عاداتها، وابن لها شاب قد نيف على العشرين ولم يبلغ الثلاثين بعد، فهو حرى إذا مضى عليه الزمن أن يلوي لسانه بلغة القاهرة، وأن يأخذ نفسه بعادات أهلها، وكانت الأم لا تصنع شيئا كما ينبغي لأمثالها حين يتركن الصعيد، ويقرن في غرفة من غرفات هذا الربع في مدينة القاهرة.
لم تكن تصنع شيئا لتكسب حياتها، إنما قسم الأمر بينها وبين ابنها قسمة عدلا، فعلى الفتى أن يجد في الشارع طول النهار ويعود بالقوت مع الليل، وعلى أمه أن تعنى بالغرفة وتهيئ الطعام لابنها ولنفسها.
وكان الفتى بائعا متجولا، يصنع ما يبيعه في غرفته، يبدأ في صنعه مع الصبح، فإذا ارتفع الضحى وكاد النهار ينتصف خرج إلى الشارع بما أعد، فجعل يتغنى به متنقلا متجولا في حيث تدفعه قدماه إليه من الشوارع والحارات، يبعد حينا ويقرب حينا، ولكنه لا يعود حتى يبيع ما يحمل، وكان يحمل في الشتاء هذا اللون من ألوان الحلوى الذي يسمى «غزل البنات»، وكان يحمل في الصيف هذا اللون الآخر من ألوان الحلوى الذي كان يسمى مرة «جيلاتي» ومرة «دندرمة».
وكان الفتى يصنع هذا اللون أو ذاك فرحا مرحا متغنيا أو متكلفا للفرح والمرح والغناء، فإذا أتم صناعته حملها ومر أمام غرفاتنا هادئا صامتا مستأنيا، حتى إذا انحرف إلى السلم وهبط منه إلى الحارة ارتفع صوته فجأة بغناء حلو رقيق، يمدح فيه ما كان يحمل من طعام، ويدعو إليه طلابه من الصبية والنساء. وكأن الفتى كان يستبيح لنفسه الغناء ما أقام في غرفته، ويحظر على نفسه الغناء إذا مر بغرفات أهل الوقار والجد من العلماء والطلاب، فإذا هبط إلى الطريق العام استباح لنفسه ما يستبيح لها الباعة جميعا، فغنى طعامه ودعا الناس إليه. وكأن الفتى كان يشعر في نفسه بأن ليس هناك خير في أن يتغنى ما كان يحمل من حلوى أو يدعو إليه أمام هذه الغرفات؛ فأهلها أصحاب جد لا يحفلون بالحلوى ولا ينشطون لها، وإنما يحفلون بالعلم وينشطون للعلم. وأكبر الظن أن الفتى كان مخطئا في هذا التقدير، فقد كان بين أهل الربع من غير شك من كانوا يحبون غناءه ويتشوقون إلى غزل البنات أو إلى الدندرمة، ويودون أن يقف وأن يكونوا أول من يفتح عليه، ولكنهم لم يكونوا يفعلون، يمنعهم من ذلك الحياء حينا وضيق ذات اليد أحيانا.
وفي ذات يوم انقطع غناء الفتى وانقطع صوت أدواته التي كان يحرك بها ألوان الحلوى، وقام مقام هذا الغناء وهذه الأصوات غناء آخر وأصوات آخرى؛ فقد جعل نسوة يختلفن إلى هذه الغرفة متصايحات متضاحكات أول الأمر، ثم مزغردات متغنيات ناقرات على الطبول، حتى أصبحت حياة الطلاب والعلماء عناء ثقيلا. ولكن حياة الصبي رقت لذلك وراقت وامتلأت لذة وحبورا؛ ذكر ريفه بهذه الطبول وهذه الزغاريد وهذا الغناء، وقد كان يحب هذا كله أشد الحب ويجد فيه لذة ومتاعا لا يقلان عما كان يجد من اللذة والمتاع حين كان يستمع لشيوخه وهم يتغنون بما كانوا يلقون في دروسهم من علم، وإن اختلف نوع اللذة والمتاع اختلافا شديدا.
ثم أضيفت إلى أصوات النساء هذه أصوات أخرى ساعة من نهار؛ أصوات الحمالين الذين أخذوا يصعدون سلم الربع ويزحمون طرقه بما كانوا يحملون إلى هذه الغرفة من متاع، وهم يتصايحون ويتشاتمون جادين مرة ومازحين مرة أخرى، والنساء يلقينهم ويتلقين أمتعتهم بنقر الطبول ورفع الزغاريد وإرسال الغناء. وربما ابتهجت امرأة من أهل الطبقة السفلى لبعض ما كانت تسمع وترى، فذكرت يوم زفافها أو استحضرت يوم زفاف ابنها أو بنتها الذي لم يأت بعد، وإذا هي تزغرد مع المزغردات وقد تغني مع المغنيات على غير معرفة بأصحاب العرس وعلى غير مودة بينها وبينهم، ولكن الفرح كثير الشيوع كما أن الحزن كثير الشيوع، ما أسرع ما تنتقل به العدوى بين المصريين!
وقد جاء اليوم الأكبر يوم الخميس بعد أن لقي العلماء وطلاب العلم من هذا الاضطراب شرا عظيما، أزعج أصحاب الجد منهم عن غرفاتهم وعن الربع كله، فذهبوا يلتمسون الهدوء الذي يحتاج إليه الدرس عند أصحابهم أو في المساجد. أقبل يوم الخميس فاشتد الاضطراب حتى تعدى حده المألوف وتجاوز الربع إلى الحارة، فضرب السرادق، وجعلت الموسيقى تعزف من العصر، وأقبل ناس من غير أهل الحي فابتهجوا وطعموا وحيا بعضهم بعضا واستمعوا للغناء. والصبي رابض عند نافذته لا يفوته من هذا كله شيء، قد نسي العلم والعلماء والأزهر وأهل الأزهر، ونسي طعامه وشايه وفني في هذه الموسيقى التي كان يسمعها في القاهرة لأول مرة، كما فني في هذه الألوان المختلفة من الأغاني؛ أغاني الشعب في أول الليل، وأغاني الشيخ المحترف حين تقدم الليل.
فأما أخوه وأصحابه فقد هجروا الربع في هذا اليوم هجرا غير جميل، وأما هو فلم يتحول عن مكانه حتى تقدم الليل. وكاد عمي الحاج علي يخرج من غرفته فيشق الليل بصوته ويضرب الأرض بعصاه، ولكنه لم يفعل، ولو قد فعل لما سمع صوته أحد ولا أحس عصاه أحد، وأين كان يقع صوته وعصاه من هذه الضوضاء المنعقدة التي طردت النوم عن الحي كله، وهذا صياح فظيع ينبعث طويلا ممتدا، وهذه الزغاريد تحيط به وترقص حوله إن صح أن ترقص الزغاريد، وهذا الفرح والابتهاج يرقصان من حول الألم والعذاب؛ فقد أدخل الفتى على أهله. ثم يسعى الليل هادئا بطيئا رزينا، فيمس بيده المظلمة العريضة هذه الأشياء وهؤلاء الأحياء، وإذا المصابيح قد أطفئت، وإذا الأصوات قد سكتت، وإذا النوم قد أقبل رفيقا كأنه اللص فضم بين ذراعيه أهل الحي جميعا، إلا هذا الصبي الذي لم يتحول عن نافذته ولم ينقطع تفكيره في هذا الألم الطويل الممتد، يرقص من حوله فرح عريض مضطرب، ولكن الصبي يعود إلى نفسه؛ لأن صوتا يأتيه من قريب ينبئه بأن الليل قد انقضى وبأن الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، ولكن الصبي لم ينم من ليلته، وهو على ذلك ينهض ويتوضأ، حتى إذا فرغ المؤذن من أذانه أدى الصبي صلاة الصبح، ثم التف في لحافه وامتد على بساطه القديم، وذهل عن نفسه أو ذهلت نفسه عنه، فلم تعرفه ولم يعرفها إلا حين أقبل عمي الحاج علي حين ارتفع الضحى يطرق الباب طرقا عنيفا، ويصيح صيحته المعروفة: «يا هؤلاء! يا هؤلاء!»
الفصل الحادي عشر
ولن يتم وصف الربع وتصوير البيئة التي عاش فيها الصبي لأول عهده بالقاهرة، إذا لم يذكر أشخاص كانوا يقيمون في الربع وكأنهم ليسوا من أهله، وأشخاص آخرون كانوا يلمون بالربع بين حين وحين وكأنهم من أهله المقيمين فيه. فمن المقيمين النازحين ذلك الشيخ الذي تقدمت به السن حتى جاوز الخمسين، والذي طلب العلم جادا في طلبه ما استطاع، والتمس الدرجة محتملا في ذاتها ما أطاق، فلم يحصل من العلم إلا قليلا، ولم يتقدم إلى الدرجة إلا رد عنها فيئس ولم ييأس، وأقام جسمه في الربع ونزحت نفسه عنه؛ استحيا أن يعود إلى بلده مخفقا فأقام في القاهرة، وفي حيث كان يقيم أيام كان يطلب العلم جادا مجتهدا. ودبر أمر أسرته في الريف من بعيد يخطف نفسه إليها يوم الخميس إذا أمسى ليعود إلى الربع يوم السبت إذا أصبح. وله حظ من ثراء وفضل من نعمة؛ فهو يعيش بين هؤلاء الطلاب عيشة الأغنياء من أهل الريف. قد أثث غرفته بمتاع ممتاز، وأقام فيها مصبحا وممسيا لا يفارقها إلا قليلا، يخيل إلى الناس أنه يقرأ ويدرس، وأنه قد حفظ العلم ووعى أسفاره فليس هو في حاجة إلى أن يختلف إلى الدروس ويسمع للشيوخ، ولو قد أسعده الحظ وواتته الأقدار لكان شيخا مثلهم يلقي الدروس ويختلف إليه التلاميذ؛ فقد صحب أكثرهم حين كانوا طلابا، واستمع معهم للشيخ الإمبابي وزار معهم الشيخ الأشموني، ولكن الحظ وفى لهم وأخلفه، فأصبحوا أساتذة وظل هو في هذه المنزلة بين المنزلتين، منزلة الطالب ومنزلة الأستاذ.
Unknown page