ثم ألقى الفتى نفسه على السرير وعجز عن الحركة، وأخذ يئن أنينا يخفت من حين إلى حين، وكان صوت هذا الأنين يبعد شيئا فشيئا، وإن الصبي لينسى كل شيء قبل أن ينسى هذه الأنة الأخيرة التي أرسلها الفتى نحيلة ضئيلة طويلة ثم سكت. في هذه اللحظة نهضت أم الفتى وقد انتهى صبرها ووهى
19
جلدها، فلم تكد تقف حتى هوت
20
أو كادت، وأسندها الرجلان، فتمالكت نفسها وخرجت من الحجرة مطرقة ساعية في هدوء، حتى إذا جاوزتها انبعثت من صدرها شكاة، لا يذكرها الصبي إلا انخلع لها قلبه انخلاعا. واضطرب الفتى قليلا، ومرت في جسمه رعدة تبعها سكوت الموت. وأقبل الرجلان إليه فهيآه وعصباه وألقيا على وجهه لثاما، وخرجا إلى الشيخ، ثم ذكر أن الصبي منزو في ناحية من نواحي الحجرة، فعاد أحدهما إليه فجذبه جذبا وهو ذاهل، حتى انتهى به إلى مكان بين الناس فوضعه فيه كما يوضع الشيء.
وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى هيئ الفتى للدفن وخرج الرجال به على أعناقهم.
فيا للقضاء! ما كادوا يبلغون به باب الدار حتى كان أول من لقي النعش هذا العم الشيخ الذي كان الفتى يتمهل الموت دقائق ليراه.
من ذلك اليوم استقر الحزن العميق في هذا الدار، وأصبح إظهار الابتهاج أو السرور بأي حادث من الحوادث شيئا ينبغي أن يتجنبه الشبان والأطفال جميعا.
من ذلك اليوم تعود الشيخ ألا يجلس إلى غدائه ولا إلى عشائه حتى يذكر ابنه ويبكيه ساعة أو بعض ساعة، وأمامه امرأته تعينه على البكاء، ومن حوله أبناؤه وبناته يحاولون تعزية هذين الأبوين فلا يبلغون منهما شيئا، فيجهشون جميعا بالبكاء.
21
Unknown page