وأخذ الصبي يذهب إلى دار المفتش قبل الميعاد ليظفر بساعة أو بعض ساعة يتحدث فيها إلى هذه الفتاة، وأخذت الفتاة تنتظره، حتى إذا أقبل أخذته إلى غرفتها، فجلست وأجلسته وتحدثا. وما هي إلا أن استحال الحديث إلى لعب - إلى لعب كلعب الصبيان لا أكثر ولا أقل - ولكنه كان لعبا لذيذا. وقص الصبي هذا كله على أمه، فضحكت ورثت
5
للفتاة قائلة لأخت الصبي: طفلة زوجت من هذا الشيخ لا تعرف أحدا ولا يعرفها أحد، فهي ضيقة الصدر في حاجة إلى اللهو والعبث.
ومن ذلك اليوم سعت أم الصبي في التعرف إلى هذه الفتاة، ودعتها إلى البيت وإلى أن تكثر التردد عليها.
الفصل الثامن عشر
وكذلك اتصلت أيام الصبي بين البيت والكتاب والمحكمة والمسجد وبيت المفتش ومجالس العلماء وحلقات الذكر، لا هي بالحلوة ولا هي بالمرة، ولكنها تحلو حينا وتمر حينا آخر، وتمضي فيما بين ذلك فاترة سخيفة. حتى كان يوم من الأيام ذاق الصبي فيه الألم حقا، وعرف منذ ذلك أن تلك الآلام التي كان يشقى بها ويكره من أجلها الحياة لم تكن شيئا، وأن الدهر قادر على أن يؤلم الناس ويؤذيهم، ويحبب إليهم الحياة ويهون من أمرها على نفوسهم في وقت واحد. كانت للصبي أخت هي صغرى أبناء الأسرة، كانت في الرابعة من عمرها، كانت خفيفة الروح طلقة الوجه فصيحة اللسان عذبة الحديث قوية الخيال. كانت لهو الأسرة كلها، كانت تخلو إلى نفسها ساعات طوالا في لهو وعبث؛ تجلس إلى الحائط فتتحدث إليه كما تتحدث أمها إلى زائرتها، وتبعث في كل اللعب التي كانت بين يديها روحا قويا وتسبغ عليها شخصية؛ فهذه اللعبة امرأة، وهذه اللعبة رجل، وهذه اللعبة فتى، وهذه اللعبة فتاة، والطفلة بين هؤلاء الأشخاص جميعا تذهب وتجيء، وتصل بينها الأحاديث مرة في لهو وعبث، وأخرى في غيظ وغضب، ومرة ثالثة في هدوء واطمئنان، وكانت الأسرة كلها تجد لذة قوية في الاستماع إلى هذه الأحاديث والنظر إلى هذه الألوان من اللعب دون أن ترى الطفلة، أو تستمع، أو تحس أن أحدا يرقبها.
فما هي إلا أن أقبلت بوادر عيد الأضحى في سنة من السنين، وأخذت أم الصبي تستعد لهذا العيد؛ تهيئ له الدار وتعد له الخبز وألوان الفطير. وأخذ إخوة الصبي يستعدون لهذا العيد؛ يختلف كبارهم إلى الخياط حينا، وإلى الحذاء حينا آخر، ويلهو صغارهم بهذه الحركة الطارئة على الدار، فينظر صبينا إلى أولئك وهؤلاء في شيء من الفلسفة كان قد تعوده؛ فلم يكن في حاجة إلى أن يختلف إلى خياط أو حذاء، وما كان ميالا إلى اللهو بمثل هذه الحركات الطارئة ، وإنما كان يخلو إلى نفسه ويعيش في عالم من الخيال يستمده من هذه القصص والكتب المختلفة التي كان يقرؤها فيسرف في قراءتها.
أقبلت بوادر هذا العيد، وأصبحت الطفلة ذات يوم في شيء من الفتور والهمود لم يكد يلتفت إليه أحد. والأطفال في القرى ومدن الأقاليم معرضون لهذا النوع من الإهمال، ولا سيما إذا كانت الأسرة كثيرة العدد، وربة البيت كثيرة العمل. ولنساء القرى ومدن الأقاليم فلسفة آثمة وعلم ليس أقل منها إثما، يشكو الطفل، وقلما تعني به أمه ... وأي طفل لا يشكو! إنما هو يوم وليلة ثم يفيق ويبل،
1
فإن عنيت به أمه فهي تزدري الطبيب أو تجهله، وهي تعتمد على هذا العلم الآثم؛ علم النساء وأشباه النساء. وعلى هذا النحو فقد صبينا عينيه؛ أصابه الرمد فأهمل أياما، ثم دعي الحلاق فعالجه علاجا ذهب بعينيه. وعلى هذا النحو فقدت هذه الطفلة الحياة؛ ظلت فاترة هامدة محمومة يوما ويوما ويوما، وهي ملقاة على فراشها في ناحية من نواحي الدار، تعنى بها أمها أو أختها من حين إلى حين، تدفع إليها شيئا من الغذاء، الله يعلم أكان جيدا أم رديئا؟ والحركة متصلة في البيت؛ يهيأ الخبز والفطير في ناحية، وتنظف المنظرة وحجرة الاستقبال في ناحية أخرى، والصبيان في لهوهم وعبثهم، والشبان في ثيابهم وأحذيتهم، والشيخ يغدو ويروح ويجلس إلى أصحابه آخر النهار وأول الليل.
Unknown page