184

ولم تمض أيام بعد تلك الليلة السعيدة حتى أقبل على دار الفتى ذات ضحى شاب من موظفي القصر، فأنبأه بأنه قد أقبل يدعوه للقاء رئيس الديوان.

قال الفتى: وماذا يريد مني رئيس الديوان السلطاني وأنا لم أعرفه، وما أظنه رآني قط؟

قال الموظف: لا أدري، ولكنه أمرني أن أدعوك للقائه، وأن أصحبك إلى مكتبه.

وبعد ساعة كان الفتى عند رئيس الديوان شكري باشا رحمه الله فرأى رجلا سمح النفس، عذب الحديث، خفيف الظل، له مشاركة في الأدب العربي، ولكن في الأدب العربي الذي كان الناس يحبونه في القرن الماضي، فهو كان يتحدث عن الجناس والطباق وحسن الفكاهة وبراعة التورية، ويروي لكل هذا أمثلة من الشعر المتأخر لم يحفظ الفتى منها إلا بيتا واحدا؛ لأنه لم يكد يسمعه حتى غلبه الضحك على ما كان ينبغي له من الأدب والوقار في ذلك المجلس المهيب، وضحك شكري باشا لضحك الفتى، وقال في نغمة لا تخلو من حزن: كان هذا البيت يملؤنا رضا وإعجابا وها أنتم أولاء شباب اليوم تضحكون وتتندرون به وبأمثاله، والبيت هو:

أخذ الكرا مني وأحرمني الكرى

بيني وبينك يا ظلوم الموقف

ويجب أن تقرأ الكرا مكسور الكاف في أول البيت وهو الأجر ومفتوح الكاف في آخر الشطر الأول وهو النوم، وأن تعرف أن «الموقف» هو ذلك المكان الذي كانت تجتمع فيه الحمر لتحمل إلى حيث يريدون من المدينة.

والشاعر يريد أن يقول: إن صاحب الحمار قد أخذ منه الأجر، واشتط عليه فيه، فذاد عنه النوم، ثم هو يشكو من ظلم صاحب الحمار، ويجعل موقف الحساب يوم القيامة بينه وبينه لينصفه الله منه.

وظاهر أن الجناس بين الكرا والكرى والتورية بالموقف لموقف الحمر هما مصدر الجمال الذي فتن رئيس الديوان وأضحك الفتى؛ ولا عليك من هذه الهمزة التي زيدت في حرمني فقد دعت إليها ضرورة الوزن، والضرورات تبيح المحظورات!

وطال مجلس الفتى عند رئيس الديوان حتى إذا أقبل بعض الزائرين، استأذن في أن ينصرف، فأذن له الرئيس وهمس في أذنه: إن مولانا يحب أن يراك.

Unknown page