وترك سوارس شعبان فانهار على الأرض في غيبوبة، وخطف مقطف تراب من فوق رأس امرأة عابرة وألبسه رأس قاسم. وهم حسن بالوثوب عليه لولا أن طوقه زكريا بذراعه في الوقت المناسب الذي وصل فيه. ورفع قاسم المقطف عن رأسه فبدا وجهه كالمختنق وانسال التراب على رأسه وثوبه حتى غطاه، وسرعان ما تملكته نوبة سعال. وصرخت قمر وصوتت سكينة، وجاء عويس مهرولا، وانطلق النساء والرجال والصغار من الأبواب نحو الموقعة فعلا اللغط والضوضاء. وكان زكريا يشد على ذراع ابنه حسن بكل قواه وينظر في عينيه الجاحظتين بتوسل وتحذير. واقترب عويس من سوارس قائلا: امسح العيب في وجهي أنا يا معلم سوارس.
وهتف أكثر من صوت: «شفاعة لله يا معلم!» .. حتى صرخ سوارس قائلا: هذا قريب وذاك شفيع، وبين هذا وذاك ضاع سوارس وانقلب مرة بعدما كان فتوة!
فصاح زكريا: أستغفر الله يا معلم، أنت سيدنا وتاج رأسنا.
ومضى سوارس إلى القهوة، فرفع رجال شعبان، وراح حسن ينفض التراب عن وجه قاسم وثوبه، واستطاع المتجمعون - بعد اختفاء سوارس - أن يعبروا عن أسفهم.
80
وفي مساء ذلك اليوم ضج أحد الربوع بحي الجرابيع بالصوات ينعى ميتا. أطلقته حنجرة متهالكة وسرعان ما رددته عشرات الحناجر في الربوع. وأطل قاسم من النافذة فسأل فطين بياع اللب فأجابه الرجل: «تعيش أنت، شعبان مات!» وغادر الرجل داره فزعا فقصد ربع شعبان على مبعدة ربعين من داره. وهنالك وجد الحوش مظلما ومكتظا بسكان الشقق التحتانية الذين راحوا يتبادلون كلمات الرثاء والحزن والسخط، على حين تجاوبت دهاليز الأدوار الفوقانية بالصوات. وسمع امرأة تقول بعنف: لم يمت ولكن قتله سوارس. - إلهي يخرب بيتك يا سوارس!
فاعترضت ثالثة تقول: ما قتله إلا قاسم! يفتري الأكاذيب ورجالنا تقتل.
فانقبض قلب قاسم حزنا، وشق طريقه في الظلام حتى صعد إلى أول دور حيث توجد شقة القتيل. ورأى على ضوء سراج مثبت في حائط الدهليز أمام الشقة أصحابه حسن وصادق وعجرمة وأبو فصادة وحمروش وآخرين، فأقبل صادق نحوه وهو يبكي فعانقه دون أن ينبس. وقال حسن وقد بدا وجهه مروعا تحت الضوء الشاحب: لن يذهب دمه هدرا.
واقترب عجرمة من قاسم وهمس في أذنه: زوجته في حالة سيئة حتى إنها حملتنا مقتله.
فهمس قاسم له: كان الله في عونها.
Unknown page