وإذا بصوات النساء يرتفع من الأركان حتى انقلب الحي مأتما، وقذفت الأفواه الغاضبة بالإنذارات الدموية، وأخذ الطوب يتساقط أمام بطيخة ليمنعه من التقدم. ووجد الرجل نفسه في مركز حرج لم يقع له ولا في الكابوس. كان الموت أهون عليه من الاستنجاد بأحد من الفتوات، وكان الهجوم يهدد بالقضاء عليه تحت وابل الطوب، وكان في السكوت الإجهاز على فتونته. وتطاير الشرر من عينيه، واستمر تساقط الطوب، وتمادى القوم في تحديهم، ولم يكن حدث شيء كهذا لأحد من الفتوات من قبل.
واندفع رفاعة فجأة حتى وقف أمام بطيخة، ولوح للناس بيديه حتى ساد السكوت، وهتف بصوت قوي: لم يخطئ فتوتنا وأنا الملوم!
لاحت نظرات الإنكار في الوجوه، ولكن أحدا لم ينبس بكلمة فقال رفاعة: تفرقوا قبل أن تتعرضوا لغضبه.
وفهم الناس أنه يريد أن ينقذ كرامة الفتوة حلا للأزمة فتفرقوا، وتبعهم آخرون وهم في حيرة من الأمر، ثم سارع الباقون بالتفرق خشية أن ينفرد بطيخة بأحد منهم، فأقفر الحي.
57
اشتد التوتر بالحارة بعد تلك الواقعة. وكان أخوف ما يخاف الناظر أن تعتقد الحارة بأن في تضامنها قوة تكفل لها الصمود أمام الفتوات؛ لذلك وجب - في نظره - القضاء على رفاعة ومن تحدثهم أنفسهم بالوقوف إلى جانبه، على أن يتم ذلك بالاتفاق مع خنفس فتوة آل جبل تجنبا لنشوب عراك شامل في الحارة. وقال الناظر لبيومي: «ليس رفاعة بالدرجة التي تظنها من الضعف، فوراءه محبون استطاعوا إنقاذه على رغم أنف الفتوة، فماذا يكون من أمره لو تعلقت به الحارة كما تعلق به حيه؟ هنالك سيدع العفاريت جانبا ويجاهر بأن الوقف غايته!» وصب بيومي غضبه على بطيخة، فهزه من منكبيه بعنف وقال له: «تركنا الأمر لك وحدك، فماذا فعلت يا شين الفتوات؟!» وعض بطيخة على نواجذه بحنق وقال: «سأريحكم منه ولو بقتله!» فصاح به بيومي: «خير ما تفعل أن تختفي من الحارة إلى الأبد!»
وأرسل إلى خنفس من يدعوه إلى مقابلته. ولكن عم شافعي اعترض سبيل خنفس وهو في حال من الفزع لم تسبق له من قبل. وكان قد حاول إقناع ابنه بالعودة إلى الدكان والإقلاع عن العمل الذي يجر عليه المتاعب، ولكنه فشل في مسعاه وعاد خائبا. ولما علم باستدعاء خنفس إلى مقابلة بيومي اعترض سبيله وقال له: «يا معلم خنفس، أنت فتوتنا وحامينا، وإنهم يطلبونك لتتخلى عن رفاعة فلا تتخل عنه، تعهد لهم بما يشاءون ولكن لا تتخل عنه، مرني فأهجر الحارة مصطحبا إياه ولو بالقوة ولكن لا تتخل عنه!» فقال خنفس في حذر واحتياط: «إني أعلم الناس بما يجب علي وبما تقتضيه مصالح آل جبل.» والحق أن خنفس توجس خيفة من ناحية رفاعة منذ علم بوقعة بطيخة، وقال لنفسه إنه هو الذي ينبغي له أن يحذر لا الناظر ولا بيومي.
ومضى إلى بيت بيومي فاجتمع به في المنظرة. وصارحه الفتوة بأنه دعاه بصفته فتوة آل جبل؛ ليتفقا على رأي في مشكلة رفاعة. قال: لا تستهن بشأنه فإن الأحداث تقطع بخطورة أثره.
ووافق خنفس على ذلك ولكنه قال برجاء: أرجو ألا يعتدى عليه أمامي.
فقال بيومي: نحن رجال يا معلم، ومصالحنا واحدة، ولا نعتدي على أحد في بيوتنا، وسيجيء هذا الولد الآن لأستجوبه على مسمع منك.
Unknown page