Awghustinus Muqaddima Qasira
أوغسطينوس: مقدمة قصيرة جدا
Genres
من بين نقاد أوغسطينوس برز جوليان البيلاجي أسقف مدينة إكلانوم (الواقعة على مقربة من مدينة بينيفينتو جنوبي إيطاليا) على اعتبار أنه يحظى بمكانة قريبة من مكانة أوغسطينوس؛ فقد شعر أن التشاؤم الأفريقي لا يعبر عن المناخ الطبيعي للكنائس الإيطالية. كرس أوغسطينوس السنوات الأخيرة من حياته لحوارات بينه وبين الأسقف السالف الذكر اختلطت فيها التعليقات المنصفة بالسباب المشين؛ فقد انتقد جوليان اللغة التي استخدمها أوغسطينوس تعليقا على دور الجنس في نقل صفة الإثم. لقد بدا أوغسطينوس بالنسبة إلى جوليان مانويا غير تائب متأثرا بقدر أكبر مما أدركه بالعقد الذي عاشه أوغسطينوس من حياته تحت تعويذة ماني، وكارها صنع الخالق، ومنكرا حقيقة أن الرب إذ منح الإنسان إرادة حرة فإنه قد «حرر» البشرية كي تقف على أقدامها.
دافع أوغسطينوس عن نفسه بشراسة. وأحس أنه مبرأ بالطريقة التي يتعاطى بها البشر جميعا مع الجنس باعتباره مصدرا للمشقة الشخصية والمجتمعية. تعمل غريزة التزاوج لدى الحيوانات فحسب في مواسم معينة من العام، أما في البشر فإن هذه الغريزة توقع الإنسان دوما في المتاعب (العظات، فرانجيب). الخزي ظاهرة عامة؛ ففي إطار العلاقة الزوجية نفسها، حيث يعد الاتصال الجنسي عفيفا بلا شك، عادة ما يتم ذلك الاتصال في خصوصية تامة وفي الظلام. لقد أثار الفلاسفة الكلبيون ثائرة الرأي العام إلى أقصى الحدود إذ تزاوجوا على قارعة الطريق، لكنهم أعرضوا عن هذه الممارسة قبل عصر أوغسطينوس بفترة طويلة. وأثارت العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج القيل والقال. لقد جعلت الفجوة ما بين الكرامة والشهوة الحيوانية الموضوع مثار كثير من الكوميديا. لم تسك الألفاظ المحرمة للتعبير عن مزيج الانبهار والاشمئزاز الخاص بالبشرية؟ تقع بيوت الدعارة في مناطق خاصة بالمدن لا في الشارع الرئيسي. وهناك إحساس بديهي بأن الجنسانية يمكن أن تتعارض مع الطموحات العليا.
استغل أوغسطينوس مرارا وتكرارا نقاشا يبدو غريبا على القارئ الحديث؛ فالتغيرات الفسيولوجية التي تجعل من الاتصال الجنسي قابلا للممارسة لا يتحكم فيها العقل أو الإرادة. وكثيرا ما يتعارض الجسد مع المنطق والعقل؛ حيث يستحث الأول متى لم ترد الإرادة والعقل له أن يفعل أو العكس. علاوة على ذلك، «النشوة الجنسية تطغى على العقل» فتطمس التفكير العقلاني (ردا على جوليان البيلاجي
Contra Julianum Pelagianum ). رأى أوغسطينوس في هذه السمة اللاعقلانية واللاإرادية للباعث الجنسي التجلي المطلق لحقيقة وجهة نظره. لم يفهم أوغسطينوس شيئا عن ردود الأفعال المنعكسة؛ ولذا فقد شكل صورة تخيلية للحياة الجنسية لآدم وحواء قبل السقوط (هذا إذا لم يحدث السقوط فعلا بعد خلق حواء بفترة وجيزة). لابد أن ارتباطهما كان هادئا وخاضعا لسيطرة الإرادة، بالضبط كما نستطيع أن نحرك أيدينا وأقدامنا متى شئنا. وكان اقترانهما في الفردوس مصدرا ل «المتعة السامية». لم يقبل أوغسطينوس الأفكار العتيقة التي كانت شائعة بين الطوائف الغنوصية بالقرن الثاني الميلادي، والتي مفادها أن سقوط آدم وقع بإغراء الحية لحواء، أو أن آدم وحواء سقطا لأنهما اتصلا جنسيا قبل الأوان المحدد لهما. وتبرأ سريعا من وجهة النظر (التي تبناها في فترة من الفترات) التي مفادها أن الجماع نتيجة للسقوط. لكن السقوط كان قد أثر على الجماع.
إن نقاشاته العديدة للجنسانية تخلو بشكل واضح من الحشمة، وكانت صريحة جدا لدرجة أنه كان يخشى أن يطلع عليها أصحاب العقول التي لا ترقى لجدية الموضوع قيد النقاش. اطلع أوغسطينوس على الطب كقسم من أقسام العلم، وتضمنت مكتبته كتبا دراسية إكلينيكية، وبينما وضع ردوده على جوليان أسقف إكلانوم، درس أفضل كتاب دليلي لعلم الأمراض النسائية. على أي حال، ما من أحد استطاع أن يتهمه بكونه عزبا عفيفا لا يعي شيئا من أمور الزواج التي يتحدث عنها. لقد شعر أوغسطينوس انطلاقا من كونه قسا بأنه يجب عليه - بل وحق عليه - أن يملي على المسيحيين المتزوجين ما يجوز أو، في عيد الصوم الكبير، ما لا يجوز لهم القيام به في فراشهم.
كما رأينا من قبل، كان تقييم أوغسطينوس للجنسانية يمتاز بالتذبذب ما بين تنازله الشخصي وتقييم كاثوليكي إيجابي لجمال الجسد البشري الذي منحه الخالق للبشر (على سبيل المثال، المراجعات، الجزء الثاني). لكن التقييم الأكثر إيجابية لم يستطع استبعاد حقيقة التجربة التي مفادها أنه حتى بالنسبة إلى المتزوجين يمكن أن تكون للجنس مشكلاته؛ فقد يعصي الجسد الإرادة والعقل، ورأى أوغسطينوس (متبنيا فكرة من فرفوريوس) هذه الحقيقة كعقوبة لمقاومة الروح للخير الإلهي؛ وعليه، شدد أوغسطينوس على أن الفعل الجسدي كان أداة توريث الطبيعة البشرية المعيبة عقب السقوط. ولو لم يكن ذلك هو الحال، لما اعتبر العهد الجديد الحياة الزوجية أدنى درجة من الخير الأعظم للعزوبية، وهي وجهة النظر التي يشارك فيها أوغسطينوس فرفوريوس أيضا؛ ولذا «فإن أس الرذيلة كلها يكمن في إثارة الشهوة» (عن شمائل الخطايا وغفرانها).
اقترح أوغسطينوس بجرأة أن هذه الفرضية تفسر علة ميلاد المسيح من عذراء (وهي المعجزة التي أثارت الكثير من انتقادات الوثنيين شأنها شأن البعث). ومن مريم العذراء ورث المسيح «تشابه الجسد الخطاء» (وهي عبارة القديس بولس)، وليس جسدا معيبا بفعل الخطيئة الأصلية. وبذلك أقحم أوغسطينوس فكرة مؤثرة وقاتلة في علم لاهوت القرون الوسطى؛ ألا وهي أن الفعل الجنسي يستحيل القيام به دون مسحة من الشراهة. في القرن الثاني عشر تعرت الفرضيات المسبقة الكامنة في وجهة النظر هذه، وتعرضت لنقد شديد من قبل بيتر أبيلار وروبرت أسقف ميلون.
ومع ذلك، كان أوغسطينوس على دراية بأنه بحاجة إلى تحصين موقفه التقشفي من المغالاة والغلو . وعندما أنكر، نحو عام 390، ناقد للزهد والتقشف يدعى جوليان (وهو نفسه ناسك) أن العذرية من هذا المنطلق أسمى أخلاقيا من الزواج، أمسى هجوم جيروم الضاري عليه ترنيمة كراهية ضد الجنس والزواج؛ حتى إن تهم تبني المانوية أصبحت تبدو تدريجيا معقولة على غير المألوف. لتفادي تبعات الأفعال الطائشة الأكثر جسامة لجيروم، كتب أوغسطينوس عام 401 أطروحة «حول الزواج الصالح». كانت هذه الأطروحة موجهة للراهبات ومحذرة إياهن من أنه رغم اختيارهن لحياة أسمى حقا، فلا يتعين عليهن ازدراء منظومة الزواج المسيحي. إن المتعة الحسية التي تصاحب لا محالة الفعل الجنسي ينبغي أن تتمايز عن الشبق الذي يمثل تطبيقا خاطئا للنزعة الجنسية. ولقد عرف ثلاثة مكونات صالحة للزواج تعريفا لا يتضمن الاستمتاع المتبادل. وكانت تلك المكونات التناسل والإخلاص المتبادل و«السر المقدس» أو قاعدة عدم قابلية الانفصال (أي حظر الزواج مجددا بعد الطلاق أو الانفصال). ولطالما شعر أوغسطينوس بالتردد حيال المكون الأخير المتعلق بعدم قابلية الانفصال، في ضوء إنجيل متى 5: 32 ورسالة بولس إلى أهل كورنثوس 7: 10-11، فتبنى تدريجيا موقفا متزمتا ومتشددا في المراحل اللاحقة للخلاف البيلاجي.
رأى أوغسطينوس أن الزواج يقوم على أساس قبول الزوجين وليس على أساس الجماع (وقبل وجهة النظر السائدة في القانون الروماني). وبينما كان التناسل هو الغاية من الفعل الجنسي في المقام الأول، حكم أوغسطينوس أنه «من الجائز» أن يستمتع الزوجان بالجماع دون أن تكون لديهما نية التناسل. وشأنه شأن أرسطو والقديس بولس، شدد أوغسطينوس على الواجبات المتبادلة بين الزوجين. وأوصى بتحري أكبر قدر ممكن من ضبط النفس للأزواج المسيحيين الجادين النبلاء، وظن أنه ما من شيء أجمل من الصداقة الخالية من الاتصال الجنسي بين كبار السن. لكنه سلم عن طيب خاطر بأن الوازع الجنسي في الزواج المسيحي «يستغل استغلالا جيدا»، بل وأصر على ذلك. والشيء الذي لم يستطع أن يحمل نفسه على قوله هو أن ما يستغل بحد ذاته محايد أخلاقيا أو فعل طبيعي إلى أقصى حد بالنسبة إلى الطبيعة الحيوانية التي غرسها الرب في الإنسان. لكن التقليد الأفلاطوني جعله ينزع إلى تعريف جوهر الإنسان بطريقة كادت تطمس الطبيعة المادية لهذا المخلوق. واستطاع أن يستشهد بالتعريف المشهور لأرسطو للإنسان باعتباره حيوانا فانيا عقلانيا، لكنه فضل بالتأكيد أن يتكلم عن الإنسان كروح متحدة مع جسد، أو روح تستخدم جسدا.
ثمة نقطة محورية أخرى أجبر الخلاف فيها أوغسطينوس على توظيف لغة أكثر قسوة مما وجدها كثيرون؛ ألا وهي مبدأ القضاء والقدر ومسألة المثابرة المتعلقة به. شعر الناس أنها مسألة معقدة جدا لدرجة أن مجمع ترنت بعدها بسبعة قرون تعاطى معها بعناية شديدة، وأصدر أحكاما لم تساعد على إزالة مواطن اللبس الشديدة فيها (وبذلك فتح المجلس الباب على مصراعيه للخلاف الجنسيني «نسبة إلى المذهب القائل بفساد الطبيعية البشرية»). فهم أوغسطينوس أولوية النعمة الإلهية على اعتبار أنها تقتضي النتيجة الحتمية أن الرب لم يستطع أن يسمح لصفوته في نهاية المطاف بالخروج من نعمته. لا بد أن يوحي القضاء والقدر بأن الوصول إلى الوجهة المقصودة سيتم؛ ولذا، فإن المعرفة البشرية المسبقة ليست سببية، أما معرفة الرب المسبقة فهي سببية. ولم يستطع أوغسطينوس أن يتقيد بالفكرة التي مفادها أن القضاء والقدر قائمان على فضائل متوقعة، وهي الفكرة التي كانت شائعة إلى حد كبير بين علماء اللاهوت اليونانيين المعاصرين له. وما من شيء في الإنسان سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل يمكن أن يمثل العلة الباعثة أو المستأهلة لاصطفاء الرب. اضطر أوغسطينوس أن يواجه الصعوبة الشديدة الممثلة في أن هذه الفكرة تتعامل مع الرب باعتباره مستبدا متعسفا ومبهما بقوله المأثور إن الرب لا يقضي ويقدر وحسب، بل ويضفي على الخلق فضائلهم أيضا. ووجد أن المسيح هو أفضل مثال على وجهة نظره هذه. فبما أن المسيح متحد مع الرب، فخيريته يستحيل أن تكون عارضة أو مزعزعة بأي حال من الأحوال. ولا يجوز أن يذنب، أما نحن فيجوز أن نذنب. ولكن إذا كنا ضمن المصطفين، فلا شك أننا سنرقى من اقتراف الذنوب للوفاء بالغاية المحددة مسبقا للرب. و«المسيح وناسوته الكامل» مقدر مسبقا.
Unknown page