أرى حالات أسوأ بكثير من حولي، وأصرف انتباهي عن ذلك كله بتخيل أشياء والتساؤل مثلا عما إن كنت تعملين بالمكتبة نفسها حتى الآن. وللتأكد من أنك الشخص الذي أقصده، فأنت متوسطة الحجم تقريبا، أو ربما لست كذلك بالضبط، ولك شعر بني فاتح. جئت منذ أشهر قلائل قبل أن يحين موعد التحاقي بالجيش، وحللت محل الآنسة تامبلين التي كانت هنا منذ أن بدأت أتردد على المكتبة في التاسعة أو العاشرة من عمري. خلال الفترة التي أمضتها، كانت الكتب مبعثرة في كل مكان، وكان طلب أدنى قدر من العون منها مسألة انتحارية؛ لأنها كانت صارمة وعنيفة. ما أبهى التغيير الذي كسا أرجاء المكان عندما حللت! كل شيء صار مرتبا في أقسام خاصة بكل من الكتب الروائية والواقعية والتاريخية وكتب الرحلات، كما كنت ترتبين المجلات وتعرضينها في مكان ظاهر فور وصولها، دون أن تتركيها إلى أن تبلى وتصبح عديمة القيمة. شعرت بالامتنان لك، لكنني لم أدر كيف أعبر لك عن مكنون نفسي. تساءلت أيضا ماذا أتى بك إلى هنا! فأنت امرأة متعلمة ومثقفة.
اسمي جاك أجنيو، وبطاقتي في الدرج. الكتاب الأخير الذي استعرته كان شائقا جدا، كان بعنوان «خلق البشر» لمؤلفه إتش جي ويلز. تلقيت تعليمي حتى السنة الثانية من التعليم الثانوي، ثم انتقلت إلى مصنع آل دود شأني شأن الكثيرين غيري. لم ألتحق بالجيش مباشرة إذ كنت في الثامنة عشرة من عمري؛ ولذلك لن تعتبريني رجلا مقداما. أنا شخص له أفكاره الخاصة. قريبي الوحيد في مدينة كارستيرز، أو في العالم كله، هو أبي باتريك أجنيو، وهو يعمل لدى آل دود، ليس في المصنع، بل بالبيت، حيث يتولى أعمال البستنة. أبي إنسان ميال للعزلة أكثر مني شخصيا، يطيب له الخروج إلى الريف لممارسة هواية الصيد كلما سنحت له الفرصة. أكتب له خطابا بين الحين والآخر، لكنني أشك أنه يطالع ما أرسله إليه.
بعد العشاء، صعدت لويزا إلى ردهة السيدات بالطابق الثاني، وجلست إلى المكتب لتكتب ردها:
يسعدني جدا أنك تقدر الجهود التي كنت أبذلها في المكتبة، مع أنها لم تتجاوز مهارات التنظيم العادية.
أنا على يقين أنك تود أن تعرف أخبار الوطن، لكنني لست بالشخص المؤهل لذلك لأنني غريبة هنا. إنني أتبادل أطراف الحديث مع الناس في المكتبة وفي الفندق. المسافرون المقيمون بالفندق غالبا ما يتكلمون عن النشاط التجاري (الذي عادة ما يتسم بالرواج إن أمكن الحصول على السلع)، وقلما يتحدثون عن المرض، لكنهم كثيرا ما يتناولون الحرب في حديثهم. ثمة شائعات كثيرة، وآراء وافرة، يقيني أنها ستجعلك تضحك إن لم تثر ثائرتك، لن أكلف نفسي عناء تدوينها لأنني متأكدة أن ثمة رقيبا سيطالع رسالتي هذه وسيمزقها إربا.
تتساءل كيف انتهى بي الحال إلى هنا؟ إنها ليست بالقصة المثيرة؛ لقد توفي والداي. كان أبي يعمل بشركة إيتون في تورنتو، وتحديدا في قسم الأثاث، وبعد وفاته، اشتغلت أمي هناك أيضا في قسم المفروشات، وأنا أيضا عملت هناك لفترة في قسم الكتب؛ يمكنك أن تقول إن شركة إيتون كانت بمنزلة آل دود بالنسبة إليكم. تخرجت في جارفيس كوليجيت. ولقد أصبت بمرض أودعت بسببه المستشفى لفترة طويلة، لكنني بخير الآن.
كان أمامي متسع كبير من الوقت للقراءة والاطلاع؛ كاتباي المفضلان هما توماس هاردي المتهم بالكآبة والذي أراه مخلصا جدا للواقع، وويلا كاثر. تصادف أن كنت في هذه البلدة إذ علمت أن أمينة المكتبة توفيت، وحدثت نفسي أن هذه المهنة ربما تكون مناسبة لي.
من الجيد أن رسالتك وصلتني اليوم؛ إذ إنني على وشك الخروج من هنا، ولا أعرف إن كانوا سيرسلونها إلي حيثما حللت. يسعدني أنك لم تجدي خطابي سخيفا أكثر من اللازم.
إذا قابلت أبي أو أي أحد مصادفة، فلا داعي لأن تفصحي عن حقيقة أننا نتبادل الرسائل؛ فالأمر لا يعني أحدا في شيء، ويقيني أن الكثيرين سيسخرون مني لأنني أراسل أمينة المكتبة، مثلما سخروا مني من قبل لمجرد أنني كنت أتردد على المكتبة. لم إذن أدعهم يشمتون بي؟
أنا سعيد لأنني سأخرج من هنا، فأنا أوفر حظا من بعض الذين رأيتهم وقد فقدوا قدرتهم على المشي أو الإبصار، وسيتوارون عن العالم. سألت عن مكان إقامتي في كارستيرز، حسن، لم يكن مكانا يدعو للفخر على أية حال. إذا كنت تعرفين بلدة فينيجر هيل، وانعطفت نحو طريق فلاورز، فهو آخر بيت جهة اليمين. كان مطليا باللون الأصفر في يوم من الأيام. يزرع أبي البطاطس، أو ربما كان ذلك في الماضي. اعتدت وضع المحصول على عربتي والتوجه به إلى المدينة. كنت أحتفظ بخمسة سنتات لقاء كل حمل أبيعه.
Unknown page