حدثت واقعة الزواج من مسلم في الربيع، بعد حوالي عام من مجيئها لمقاطعة مالتسيا إي ماد، وحان الوقت لأن تساق الأغنام إلى مراعيها في الأعالي. كان يناط بلوتار أن تحصي القطيع، وأن تحرص على ألا تقع الأغنام في الوديان الضيقة، أو تشرد بعيدا جدا، وكان عليها أن تحلب النعاج كل ليلة. كان من المتوقع أن تطلق النار على الذئاب إذا حاولت الاقتراب من الأغنام. لكن لم يظهر أي ذئب قط، لم ير أحد ممن يعيشون في «الكولا» حينذاك الذئاب قط. الحيوانات البرية الوحيدة التي وقعت عينا لوتار عليها ذات مرة هي الثعلب الأحمر، وكان ذلك بجوار جدول الماء، والأرانب الغفيرة قليلة الحيطة؛ تعلمت كيف تصيدها وتسلخ جلدها وتطهوها، وتنظفها كما كانت ترى الفتيات المتخصصات في هذا الشأن تفعلن في «الكولا». كانت تطهو الأجزاء الأكثر لحما على نار هادئة في قدرها مع إضافة الثوم البري.
لم تود النوم داخل المأوى، فأقامت لنفسها سقفا من فروع الأشجار بالخارج إلى جوار الجدار؛ فكان هذا السقف بمنزلة امتداد لسقف البناء. كانت كومة السرخسيات تحتها، وكذلك بساط من اللباد أعطيت إياه لتبسطه على كومة السرخسيات كلما خلدت للنوم. ولم تعد تنتبه للحشرات. ثمة بعض المسامير في الجدار بين الأحجار الجافة. لم تعرف سبب وجود تلك المسامير، لكنها نفعتها في تعليق دلاء اللبن، والقدور القليلة التي أعطيت لها. كانت تجلب المياه من جدول الماء الذي غسلت فيه وشاح رأسها، واغتسلت فيه أحيانا حرصا منها على تخفيف وطأة الحرارة أكثر من عنايتها بنظافتها الشخصية.
تغير كل شيء؛ لم تعد ترى النساء، وفقدت عادات العمل المستمر التي اكتسبتها. كانت الفتيات الصغيرات تعرجن عليها مساء لجلب اللبن، ولما كن بعيدات هكذا عن «الكولا» وعن أمهاتهن، كن يتصرفن بطيش شديد، فكن يرتقين السقف، فيهشمن - في الأغلب - بعض تعريشات فروع الأشجار التي وضعتها لوتار. كن يقفزن على السرخسيات، وأحيانا كن ينتزعن ملء كفوفهن منه ويجعلنه على هيئة كرة بسيطة، وكن يقذف بعضهن بعضا بهذه الكرة إلى أن تتفكك. استمتعن بأوقاتهن كل المتعة، حتى إن لوتار اضطرت إلى أن تطاردهن في الغسق مذكرة إياهن كم شعرن بالذعر والخوف في غابة أشجار الزان بعد حلول الظلام. اعتقدت أنهن قطعن تلك الغابة عدوا، فسكبن نصف اللبن في طريق عودتهن.
بين الفينة والأخرى، كن يجلبن لها الدقيق الذي كانت تخلطه بالماء وتخبزه على معولها بتعريضه للنار. وذات مرة، جلبن لها هدية؛ رأس نعجة - تساءلت ما إذا كن سرقنه - لتغليه في قدرها. سمح لها بالاحتفاظ ببعض اللبن؛ وبدلا من احتسائه طازجا، عادة ما كانت تتركه حتى يفسد، فتقلبه لتصنع الزبادي الذي تغمس فيه خبزها. هكذا كانت تفضله حينذاك.
وكثيرا ما كان الرجال يأتون عبر الغابة بعد أن تقطعها الفتيات الصغيرات هرولة قبلهم في طريق نزولهن؛ وبدا أن هذه عادة من عاداتهم في الصيف. كانوا يحبون الجلوس على ضفاف جدول الماء، وإطلاق أعيرة فارغة، واحتساء «الراكي» والإنشاد، وأحيانا كانوا يكتفون بالتدخين وتبادل أطراف الحديث. لم تكن الغاية من رحلتهم الاطمئنان على حالها، لكن بما أنهم سيحضرون على أي حال، فقد جلبوا لها هدايا من القهوة والتبغ، وتنافسوا على إصلاح سقف مأواها كي لا يسقط عليها ، وأوضحوا لها كيف تبقي النيران مشتعلة طوال الليل، وكيف تستخدم بندقيتها.
بندقيتها كانت قديمة من نوع مارتيني الإيطالي، وأعطيت إياها عندما رحلت عن «الكولا». بعض الرجال قالوا: إن البندقية تجلب الحظ السيئ؛ لأنها كانت مملوكة لصبي قتل قبل أن يتمكن من قتل أحد، وقال البعض الآخر إن هذا النوع من البنادق - بصفة عامة - لا يحالفه الحظ؛ حيث نادرا ما كان يستخدم.
أنت بحاجة إلى بندقية من نوع ماوزر لضمان دقة التصويب وتتابع إطلاق النار.
لكن رصاصات هذا النوع أصغر من أن تحدث ضررا كافيا؛ فهناك رجال يعيشون وفي أجسادهم ثقوب ناتجة عن هذا النوع من الرصاص - ستسمعينهم يصدرون صفيرا بأفواههم وهم يمرون بك.
لا شيء يقارن حقا ببندقية ذات زناد قوي، لها خزانة تحمل كمية بارود كبيرة، ورصاصات قوية، ومسامير.
وكلما كانوا لا يتحدثون عن البنادق وأنواعها، كانوا يتناولون أحدث عمليات القتل، وينهالون عليها بالنكات. أحدهم أخبرها نكتة عن ساحر؛ ثمة ساحر أسره أحد الباشوات، ثم أطلق سراحه ليؤدي بعض الحيل أمام ضيوفه. طلب منهم الساحر أن يجلبوا له صحنا به الماء. الآن، هذا الماء يمثل البحر. أي ميناء سأريكم إياه على البحر؟ قالوا له: أرنا ميناء على جزيرة مالطة. وفجأة ظهر الميناء، وثمة بيوت وكنائس وباخرة على وشك أن تبحر. والآن، أتريدون أن تروني وأنا أصعد على متن هذه الباخرة؟ فضحك الباشا. هيا أرنا! فوضع الساحر قدمه في صحن الماء وصعد على متن الباخرة وسافر إلى أمريكا! ما رأيكم في هذا الأمر؟!
Unknown page