أما فدوى، فلم يكن يسليها أمر، ولم تكاشف أحدا بسرها إلا بخيتا؛ لأنه هو وحده محل أمانتها، وكانت تخشى تعدي أنفار الجهادية الذين لا يميزون بين العدو والصديق، ولا يفهمون ما يجاهدون من أجله، إلا النفر اليسير من ضباطهم، فاضطرتها الحال إلى الاعتزال في البيت.
الفصل الخامس والعشرون
تذكار عزيز
ففي ذات يوم من أيام شهر يوليو سنة 1882، كانت فدوى في غرفتها تائهة في تيار من الهواجس والهموم، ووالدتها في غرفة أخرى تهتم ببعض الشئون، فسمعت فدوى قرع جرس الدار، فسألت أحد الخدم عن القارع فقال: إن في الباب الدلالة بائعة الملبوسات والسلع تريد التشرف بمقابلتك، قالت: فلتدخل. حتى أتت غرفة فدوى فرحبت بها وأجلستها، ثم سألتها عن بضاعتها وأخذت تقلب فيها، ثم دار الحديث على شئون مختلفة أخصها الأخبار الحاضرة.
فقالت دليلة: إن جنودنا المظفرة ستغلب جنود الفرنجة؛ لأن البوارج لا تزال في مياه الإسكندرية تنتظر عقد المؤتمر في الآستانة، ولكن مولانا السلطان غير راض بعقده.
فقالت فدوى: وما ظنك بنتيجة هذه الأعمال؟
قالت العجوز: إن النتيجة، يا حبيبتي، تحرير البلاد من العنصر الأجنبي، فتبقى مصالح الحكومة في أيدي أبناء الوطن، وسيتم كل ذلك بهمة الجهادية المصرية التي ألبستنا المجد والفخر، فنطلب إلى الله أن يؤيدها بالنصر، ويكلل أعمالها بالنجاح.
فقال فدوى: تلك أعمال الله يؤتي ما يشاء لمن يشاء. فما عندك الآن من السلع الجديدة؟
قالت: عندي ما يليق بجمالك وكمالك، ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت علبة صغيرة وفتحتها، فإذا فيها خاتم ذهب قدمته لها، فأعجبها شكله، فتناولته وأرادت التأمل فيه، فأمسكته دليلة وألبستها إياه في بنصرها قائلة: لتجربن اتساعه. فلما لبسته جعلت تتأمل فيه، فلمحت على فصه نقشا فقرأته، فإذا فيه: «تذكار عزيز»، فنزعته حالا من يدها وقد احمر وجهها، وبدت عليه علائم الكدر، فرمت به إليها قائلة: خذي خاتمك وأقصري.
فقهقهت دليلة حتى بانت أسنانها المهتومة، واختفت عيناها المفجرتان، وقالت مظهرة المزاح: ما أجفلك يا ابنتي؟ قالت: لم يجفلني شيء، لكنني فهمت أنه ليس برسم المبيع (وقد أدركت أنه مرسل عمدا من شخص معين، فتصرفت بما تقتضيه الرزانة ويوجبه المقام)، فأعادت الكلام دليلة قائلة: إن لم يكن برسم البيع؛ فقد يكون برسم التذكار.
Unknown page