ومما زاد اضطرابها، وأوجب اندهاشها، صندوق صغير مر عليه منذ عرفت زوجها من الزمن مقفلا. وقد تقدمت إلى رجلها مرارا أن يطلعها على ما فيه عبثا، وإنما كان يقول لها سيأتي يوم تعرفين فيه سر جميع هذه الغرائب، وتعذرينني على كتمانها عنك. ولم يكن هذا الكلام إلا ليزيد تشوقها إلى الاطلاع.
ولكثرة ما ألحت عليه، وعدها أنه يطلعها على ما في الصندوق، بشرط أن يكون ذلك مكتوما عن كل فرد سواهما، وأنه لا يطلعها على شيء فوق ذلك قط، ولا يفوه بكلمة واحدة، فقبلت. ولم تعلم أن اطلاعها على ما في الصندوق بغير أن تعلم أسبابه وتفاصيله لمما يزيد قلقها واضطرابها.
وكان ذلك اليوم يوم الموعد، على أن يكون فتح الصندوق في منتصف الليل، بعد أن ينام أهل البيت جميعا. وكان ذلك الرجل في تلك الساعة جالسا يفكر في حكاية الصندوق وقلبه يرتجف كلما تصور أنه فتحه، فأخذ يتلاهى بمطالعة بعض الكتب والجرائد التي كانت أمامه على الطاولة.
فلما كان الغروب انتبه الرجل بغتة كمن هب من رقاد، فنظر إلى الساعة فإذا الوقت قد أزف، فغمز جرسا أمامه فحضر خادم أسمر اللون عليه الجلابية والعمامة، فقال له الرجل: ألم يحضر شفيق بعد، قال: كلا، يا سيدي، لم أره هذا المساء، فاضطرب الرجل وسكت هنيهة ثم قال للخادم: اذهب، يا أحمد، ادع لي الست، قال: حاضر. فمضى. وبعد يسير، جاءت الست (امرأته) - وكانت أصغر منه سنا. أما وجهها فكان أكثر طلاقة، ولباسها على الزي التركي - وفي يدها مجلة المقتطف العلمية؛ كانت تطالع فيها في غرفتها تلهي بها نفسها عن التشوق في انتظار فتح الصندوق.
فلما دعيت إلى زوجها جاءت مسرعة والمجلة بيدها، فقابلها قائلا: ألم يأت شفيق بعد يا سعدى، فأجابته بلهفة: ألعله ليس عندك؟ فإني لم أره هذا المساء، ولكني كنت أظنه جاء ودخل حجرتك يطالع الجرائد أو يقرأ شيئا آخر. يا ويلاه! أين ذهب الغلام الليلة؟ فإنه لم يسبق له تأخير مثل هذا قط. كم هي الساعة الآن؟ وأخذت تدق يدا بيد، فقال: هي الساعة السابعة بعد الظهر، قالت: وميعاد حضوره الساعة الخامسة ونصف؛ أي بعد إقفال المدرسة التجهيزية بساعة واحدة، فما سبب هذا التأخير؟
فلما عاين زوجها اضطرابها، ندم على ما أظهره من القلق لديها، فأراد تطييب قلبها فقال: لا بأس عليه من التأخير ؛ فإن المدينة في أمان، والناس يسيرون ليلهم كنهارهم، والشوارع آهلة إلى ما بعد نصف الليل، لا يتعدى أحد على أحد، فلعل شفيقا كان في رفقة من التلامذة فمروا بحديقة الأزبكية ليسمعوا أنغام الموسيقى العسكرية، أو أنهم دعوا إلى منزل أحدهم؛ فلا يضطرب بالك. قال ذلك وقلبه قلق على الغلام، وإنما أراد تسكين رعب الوالدة، فقالت سعدى: لا تعتمد على الظنون يا إبراهيم، فإن الغلام قد تأخر، ولا يخفى عليك شدة تعلقنا به؛ لأنه وحيدنا، وكل الآمال معلقة به؛ إذ قد قدر الله ألا يكون لنا غلام سواه. أفيليق بنا أن نهمل أمره؟
فأجابها بصوت منخفض قائلا: لا خوف على الغلام، بإذن الله، وأؤكد لك بأنك سترينه أمامك بعد برهة، وها إني قد أحضرت له عدة جرائد إفرنجية ومقالات علمية ليطالعها؛ لأن درس المدرسة يدوخ الدماغ.
فقالت سعدى: وأنا أيضا قد عولت أن أطلعه على مقالة في هذه المجلة شاقني معناها؛ لأنها تبحث عن مآثر العرب في الأندلس، ولكني أصبحت قلقة لتأخره، فقال لها: لا تجزعي؛ إنه في حراسة الله.
فسكتت سعدى مراعاة لقول زوجها، واحتراما لرأيه، وعادت إلى حجرتها وأسندت نفسها إلى نافذة مشرفة على الشارع، ولبثت تنتظر مجيء ولدها وهي على مثل الجمر، وقد نسيت اشتياقها إلى استطلاع ما في الصندوق. أما الرجل فلم يعد يستطيع صبرا، فأخذ يقلب كتابا أمامه؛ ليشغل نفسه به ريثما يأتي ابنه، وقد أظلمت الدنيا في عينيه؛ لأن شفيقا لم يتأخر عمره إلى مثل تلك الساعة، فدقت الساعة ثماني دقات، فازدادت دقات قلبه، وأمر بالخادم فحضر، فقال له: أتعرف بيت عزيز أفندي صديق شفيق، قال: نعم يا سيدي، هو ذلك البناء الكبير في شارع عابدين، فقال له: سر حالا وابحث عن شفيق هناك، فإذا وجدته قل له: إن والديك ينتظرانك للعشاء. وأت به معك، قال: حاضر. ومضى، ولم يكد يخرج حتى عادت سعدى إلى غرفة زوجها تسأله عن شفيق، فأخبرها بما فعل، ثم عادت إلى غرفتها، ولبث الاثنان ينتظران عود الخادم حتى عاد وليس معه أحد.
فبادره إبراهيم بالسؤال عن شفيق، فقال: قد ذهبت إلى بيت عزيز أفندي فإذا به لم يجئ البيت حتى الآن، إلا أنهم ليسوا قلقين لذلك؛ لأنها ليست أول ليلة باتها خارجا، فقال إبراهيم: هل أنت متحقق ذلك؟ قال: نعم، يا سيدي، وأنا أعلم أن سيدي شفيقا لا يألف الجلوس في القهاوي؛ ولذلك لم أفتش عنه هناك. فبهت إبراهيم وهو في غاية الاضطراب، ولكنه كظم ما به خوفا على امرأته من سلطان العواطف؛ لأنها كانت شديدة التعلق بولدها هذا؛ لأنه وحيدها، ولم يكن أبوه أقل تعلقا به منها، إلا أن الرجال أقوى على احتمال الأهوال من النساء؛ ولذلك كان إبراهيم واجسا على امرأته.
Unknown page