الثامن أن خصومنا لا بد لهم من الإعتراف بوجود شيء على خلاف حكم الحس والخيال وذلك لأن خصومنا في هذا الباب إما الكرامية وإما الحنابلة أما الكرامية فإنا إذا قلنا لهم لو كان الله تعالى مشارا إليه بالحس لكان ذلك الشيء إما أن يكون منقسما فيكون مركبا وأنتم لا تقولون بذلك وإما أن يكون غير منقسم فيكون في الصغر والحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ وأنتم لا تقولون بذلك فعند هذا الكلام قالوا إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف ومع هذا فإنه ليس بصغير ولا حقير ومعلوم أن هذا الذي التزموه مما لا يقبله الحس والخيال بل لا يقبله العقل أيضا لأن المشار إليه بحسب الحس إن حصل له إمتداد في الجهات والأحياز كان أحد جانبيه مغايرا للجانب الثاني وذلك يوجب الإنقسام في بديهة العقل وإن لم يحصل له إمتداد في شيء من الجهات لا في اليمين ولا في اليسار ولا في الفوق ولا في التحت كان نقطة غير منقسمة وكان في غاية الصغر والحقارة فإذا لم يبعد عندهم إلتزام كونه غير قابل القسمة مع كونه عظيما غير متناه في الإمتداد كان هذا جمعا بين النفي والإثبات ومدفوعا في بداية العقول وأما الحنابلة الذين إلتزموا الأجزاء والأبعاض فهم أيضا معترفون بأن ذاته تعالى مخالف لذوات هذه المحسوسات فإنه تعالى لا يساوي هذه الذوات في قبول الإجتماع والإفتراق والتغير والفناء والصحة والمرض والحياة والموت إذ لو كانت ذاته تعالى مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات لزم إما إفتقاره إلى خالق آخر ولزم التسلسل أو لزم القول بأن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق وذلك يلزم منه نفي الصانع فثبت أنه لا بد لهم من الإعتراف بأن خصوصية ذاته التي بها امتازت عن سائر الذوات ما لا يصل الوهم والخيال إلى كهنها وذلك إعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال وإذا كان الأمر كذلك فأي استبعاد في وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين بالجهة للعالم وإن كان الوهم والخيال لا يمكنهما إدراك هذا الموجود وأيضا فعمدة مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو بخبر يوهم ظاهره شيئا من الأعضاء والجوارح صرحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله تعالى على خلاف ما هو ثابت للخلق فأثبتوا لله تعالى وجها بخلاف وجوه الخلق ويدا بخلاف أيدي الخلق ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الخيال والوهم فإذا عقل إثبات ذلك على خلاف الوهم والخيال فأي استبعاد في القول بأنه تعالى موجود وليس داخل العالم ولا خارج العالم وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الوجود
التاسع أن أهل التشبيه قالوا العالم والباري موجودان وكل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه قالوا والقول بوجوب هذا الحصر معلوم بالضرورة قالوا والقول بالحلول محال فتعين كونه مباينا للعالم بالجهة فبهذا الطريق إحتجوا بكونه تعالى مختصا بالحيز والجهة وأهل الدهر قالوا العالم والباري موجودان وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معا أو أحدهما قبل الآخر ومحال أن يوجد العالم والباري معا وإلا لزم إما قدم العالم أو حدوث الباري وهما محالان فثبت أن الباري قبل العالم ثم قالوا والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة وإذا ثبت هذا فتقدم الباري إن كان بمدة متناهية لزم حدوث الباري وإن كان بمدة لا أول لها لزم كون المدة قديمة فأنتجوا بهذه الطريق قدم المدة والزمان
Page 19