وردة الهاني
1
ما أتعس الرجل الذي يحب صبية من بين الصبايا ويتخذها رفيقة لحياته، ويهرق على قدميها عرق جبينه ودم قلبه، ويضع بين كفيها ثمار أتعابه وغلة اجتهاده، ثم ينتبه فجأة فيجد قلبها الذي حاول ابتياعه بمجاهدة الأيام وسهر الليالي قد أعطي مجانا لرجل آخر ليتمتع بمكنوناته ويسعد بسرائر محبته!
وما أتعس المرأة التي تستيقظ من غفلة الشبيبة، فتجد ذاتها في منزل رجل يغمرها بأمواله وعطاياه ويسربلها بالتكريم والمؤانسة، لكنه لا يقدر أن يلامس قلبها بشعلة الحب المحيية، ولا يستطيع أن يشبع روحها من الخمرة السماوية التي يسكبها الله من عيني الرجل في قلب الامرأة! •••
عرفت رشيد بك نعمان منذ حداثتي، وهو رجل لبناني الأصل بيروتي المولد والدار متحدر من أسرة قديمة غنية موصوفة بالمحافظة على ذكر الأمجاد الغابرة، فكان مولعا بسرد الحوادث التي تبين نبالة آبائه وجدوده، متبعا بمعيشته عقائدهم وتقاليدهم منصرفا إلى تقليدهم في العادات والأزياء الغربية المرفرفة كأسراب الطيور في فضاء الشرق.
وكان رشيد بك طيب القلب، كريم الأخلاق لكنه كالكثيرين من سكان سوريا لا ينظر إلى ما وراء الأشياء بل إلى الظاهر منها، ولا يصغي إلى نغمة نفسه بل يشغل عواطفه باستماع الأصوات التي يحدثها محيطه، ويلهي أمياله ببهرجة المرئيات التي تعمي البصيرة عن أسرار الحياة وتحول النفس عن إدراك خفايا الكيان إلى ملاحظة الملذات الوقتية، وكان من أولئك الرجال الذين يتسرعون بإظهار محبتهم أو مقتهم للناس وللأشياء، ثم يندمون على تسرعهم بعد فوات الوقت عندما تصير الندامة مجلبة للسخرية والاستهزاء بدلا من العفو والغفران.
هذه هي الصفات والأخلاق التي جعلت رشيد بك نعمان يقترن بالسيدة وردة الهاني قبل أن تضم نفسها نفسه في ظل المحبة الحقيقية التي تجعل الحياة الزوجية نعيما. •••
غبت عن بيروت بضعة أعوام، ولما رجعت إليها ذهبت لزيارة رشيد، فوجدته ضعيف الجسد مكمد اللون، تتمايل على سحنته المنقبضة أشباح الأحزان، وتنبعث من عينيه الحزينتين نظرات موجعة تتكلم بالسكينة عن انسحاق قلبه وظلمة صدره، وبعيد أن بحثت في محيطه ولم أجد أسباب نحوله وانقباضه سألته قائلا: «ما أصابك أيها الرجل؟ وأين تلك البشاشة التي كانت تنبعث كالشعاع من وجهك؟ وأين ذهب ذاك السرور الذي كان ملاصقا شبيبتك؟ هل فصل الموت بينك وبين صديق عزيز، أم سلبتك الليالي السوداء مالا جمعته في الأيام البيضاء؟ قل لي بحق الصداقة ما هذه الكآبة المعانقة نفسك، وهذا النحول المالك جسدك؟»
فنظر إلي نظرة متأسف أرته الذكرى رسوم أيام جميلة ثم حجبتها، وبصوت تتموج في مقاطعه معاني اليأس والقنوط قال: «إذا فقد المرء صديقا عزيزا والتفت حوله يجد الأصدقاء الكثيرين فيتصبر ويتعزى، وإذا خسر الإنسان مالا وفكر قليلا رأى النشاط الذي أتى بالمال سيأتي بمثله فينسى ويسلو، ولكن إذا أضاع الرجل راحة قلبه فأين يجدها؟! وبم يستعيض عنها؟ يمد الموت يده ويصفعك بشدة، فتتوجع ولكن لا يمر يوم وليلة حتى تشعر بملامس أصابع الحياة فتبتسم وتفرح، يجيئك الدهر على حين غفلة ويحدق بك بأعين مستديرة مخيفة، ويقبض على عنقك بأظافر محددة ويطرحك بقساوة على التراب ويدوسك بأقدامه الحديدية، ويذهب ضاحكا ثم لا يلبث أن يعود إليك نادما مستغفرا، فينتشلك بأكفه الحريرية، ويغني لك نشيد الأمل، فينزل بك مصائب كثيرة ومتاعب أليمة تأتيك مع خيالات الليل تضمحل أمامك بمجيء الصباح، وأنت شاعر بعزيمتك متمسك بآمالك، ولكن إذا كان نصيبك من الوجود طائرا تحبه وتطعمه حبات قلبك وتسقيه نور أحداقك، وتجعل ضلوعك له قفصا ومهجتك عشا، وبينما أنت تنظر إلى طائرك وتغمر ريشه بشعاع نفسك إذ به قد فر من بين يديك، وطار حتى حلق السحاب ثم هبط نحو قفص آخر وما من سبيل إلى رجوعه، فماذا تفعل إذ ذاك أيها الرجل، قل لي ماذا تفعل وأين تجد الصبر والسلوان، وكيف تحيي الآمال والأماني؟»
لفظ رشيد بك الكلمات الأخيرة بصوت مخنوق متوجع، ووقف على أقدامه مرتجفا كقصبة في مهب الريح، ومد يديه إلى الأمام كأنه يريد أن يقبض بأصابعه المعوجة على شيء ليمزقه إربا إربا، وقد تصاعد الدم إلى وجهه وصبغ بشرته المتجعدة بلون قاتم، وكبرت عيناه وجمدت أجفانه، وأحدق دقيقة كأنه رأى أمامه عفريتا قد انبثق من العدم وجاء ليميته، ثم نظر إلي وقد تغيرت ملامحه بسرعة وتحول الغضب والحنق في جسده المهزول إلى التوجع والألم وقال باكيا: «هي المرأة، المرأة التي أنقذتها من عبودية الفقر، وفتحت أمامها خزائني وجعلتها محسودة بين النساء على الملابس الجميلة، والحلي الثمينة والمركبات الفخمة، والخيول المطهمة. المرأة التي أحبا قلبي، وسكب على أقدامها عواطفه ومالت إليها نفسى فغمرتها بالمواهب والعطايا. المرأة التي كنت لها صديقا ودودا ورفيقا مخلصا وزوجا أمينا قد خانتني وغادرتني وذهبت إلى بيت رجل آخر لتعيش معه في ظلال الفقر، وتشاركه بأكل الخبز المعجون بالعار، وشرب الماء الممزوج بالذل والعيب. المرأة التي أحببتها، الطائر الجميل الذي أطعمته حبات قلبي، وأسقيته نور أحداقي وجعلت ضلوعي له قفصا، ومهجتي عشا قد فر من بين يدي وطار إلى قفص آخر محبوك من قضبان العوسج؛ ليأكل فيه الحسك والديدان، ويشرب من جوانبه السم والعلقم. الملاك الطاهر الذي أسكنته فردوس محبتي وانعطافي قد انقلب شيطانا مخيفا، وهبط إلى الظلمة ليتعذب بآثامه ويعذبني بجريمته.»
Unknown page