قالت هذا والتفت برداء طويل وفتحت الباب وخرجت بقدم ثابتة وبقيت مريم واقفة في الباب والهواء يتلاعب بجدائل شعرها.
مشت راحيل بضع خطوات فالحة الثلج بقدميها ثم وقفت ونادت: «من الصارخ؟ أين المستغيث؟» فلم يجبها أحد ثم رددت كلماتها هذه ثانية وثالثة وإذ لم تسمع غير صراخ الزوبعة تقدمت إلى الأمام بشجاعة ملتفتة إلى كل ناحية حاجبة وجهها من تموجات الريح العنيفة، ولم تسر رمية سهم حتى رأت أثر أقدام غارقة في الثلج قد أوشكت الأرياح أن تمحوها فاتبعتها بسرعة جازع مترقب وبعد هنيهة نظرت فرأت أمامها جسدا مطروحا على الثلج كرقعة سوداء على ثوب ناصع البياض، فتقدمت وذرت الثلج عنه وأسندت رأسه على ركبتيها ووضعت يدها على صدره وإذ شعرت بنبضات قلبه المتهاونة التفتت نحو الكوخ وصرخت قائلة: «هلمي يا مريم هلمي إلى معونتي فقد وجدته.»
فخرجت مريم من البيت متبعة أثر أقدام والدتها مرتعشة من البرد والخوف حتى إذا ما بلغت المكان ورأت الشاب الملقى بلا حراك على الثلج تأوهت وصرخت بلهفة وتوجع، فقالت الأم وقد وضعت يديها تحت إبطيه: «هو حي فلا تخافي بل أمسكي بأطراف أثوابه وتعالي نحمله إلى البيت.»
حملت المرأتان الفتى والأرياح الشديدة تصدهما والثلوج تتمسك بأقدامهما حتى إذا ما بلغتا به الكوخ ألقتاه بجانب الموقد وأخذت الأم تفرك أعضاءه المتجلدة والابنة تجفف بأطراف ثوبها شعره البليل وأصابعه الباردة، فلم تمر بضع دقائق حتى عادت إليه الحياة فتحرك قليلا وارتعشت أجفانه وتنهد تنهيدة عميقة بثت الأمل بنجاته في قلبي المرأتين الشفوقتين، فقالت مريم بعد أن حلت سيور حذائه المهشم وخلعت عباءته البليلة: «انظري يا أماه! انظري ملابسه فهى شبيهة بأثواب الرهبان.» فالتفتت راحيل وقد وضعت في الموقد غمرا من القضبان اليابسة وقالت مستغربة: «إن الرهبان لا يخرجون من الدير في مثل هذه الليلة المخيفة فأي شيء يا ترى جعل هذا المسكين يخاطر بحياته؟»
فقالت الصبية مستدركة: «ولكن هو أمرد يا أماه وللرهبان لحى كثيفة.» فنظرت إليه الوالدة وقد انسكبت الرأفة الوالدية من عينيها وقالت متنهدة: «جففي قدميه جيدا يا ابنتي راهبا كان أم مجرما.»
وفتحت راحيل الخزانة الخشبية وأخرجت منها جرة صغيرة مملوءة خمرا وسكبت منها في إناء من الفخار ثم قالت لابنتها: «أسندي رأسه يا مريم لنجرعه قليلا من الخمر فينتعش وتعود الحرارة إلى جسده.»
قربت راحيل حافة الطاس إلى شفتي الشاب وجرعته قليلا ففتح عينيه الكبيرتين ونظر إلى منقذيه لأول مرة نظرة لطيفة محزنة قد انبعثت مع دموع الشكر ومعرفة الجميل، نظرة من شعر بملامس الحياة بعد أن كان بين مخالب الموت، نظرة الأمل بعد اليأس. ثم ألوى عنقه وخرجت هذه الكلمات من بين شفتيه المرتعشتين: «ليبارككما الله.»
فقالت راحيل وقد وضعت يدها على كتفه: «لا تزعج نفسك بالكلام يا أخي بل ابق صامتا حتى تعود إليك القوة.»
وقالت مريم: «اتكئ يا أخي إلى هذا المسند واقترب قليلا من الموقد.»
فاتكأ الشاب متنهدا وبعد دقيقة ملأت راحيل الطاس خمرا وسقته ثانية ثم التفتت نحو ابنتها وقالت: «ضعي جبته بقرب النار لتجف.» ففعلت مريم ثم جلست تنظر إليه بحنو وشفقة كأنها تريد أن تبث بنظراتها الحرارة والقوة في جسده النحيل.
Unknown page