الأمر أشبه بالحديث عن «هل أدى ظهور التليفزيون إلى إلغاء الإذاعة؟» والإجابة: «طبعا لا.» وهو ما حدث أيضا مع المدونات، التي تحولت في عدد كبير منها إلى مجلات ثقافية وفنية وتكنولوجية، وبدائل لمواقع شخصية للكتاب، ينشرون عليها نتاجهم الإبداعي، دون انتظار كبير ل «لايك» أو «شير»؛ هؤلاء ينتمون حقا للمدونات، ويعرفون أنها صرخة في وجه العدم، ومساحة أوسع للبوح، دون ضجيج ودون حاجة ل «النجومية»؛ ولهذا كانت - وستظل - المدونات.
ندوة «جبريل»
يتحدث كتاب جيل الستينيات في مصر دائما في حواراتهم وندواتهم وسيرهم الذاتية عن فضل الروائي «عبد الفتاح الجمل» عليهم، وكيف استقبلهم في ملحقه بجريدة «المساء» وقدم كتابا مثل: إبراهيم أصلان، وبهاء طاهر، وعبد الرحمن الأبنودي، ويوسف القعيد، ويحيى الطاهر عبد الله، ومحمد البساطي، وربما آن للجيل الذي أنتمي إليه، وأجيال سبقتني وأخرى لحقتني أن تتحدث عن فضل الروائي «محمد جبريل» - وندوته في جريدة «المساء» أيضا - عليهم.
كان ذلك منذ زمن طويل نسبيا، ربما ستة عشر عاما، حين التقيته أول مرة، وما زلت أذكر ذلك اليوم جيدا؛ إنصاته باهتمام، ترحيبه بشخص أول مرة يقابله، ملامحه الطيبة، ووده الشديد. داومت على الحضور في الندوة التي كانت أقرب لورشة كتابة (قبل أن تنتشر ورش الكتابة المعروفة الآن) منها إلى مجرد ندوة تقرأ فيها النصوص وتنتظر من يصفق لها. في الندوة التقيت بأبرز كتاب الجيل الذي أنتمي إليه؛ مثل: محمد صلاح العزب، وطارق إمام، وأحمد شافعي، ومحمد عبد النبي، والطاهر شرقاوي، وهاني عبد المريد، ومحمد الفخراني، وكتاب من أجيال سابقة؛ مثل: مجدي عبد الرحيم، وسيد الوكيل، ومحمود الحلواني، وسعيد نوح، وهويدا صالح ... وكثيرون غيرهم.
لم يكن فضل جبريل على الكتاب الذين كانوا يعيشون في القاهرة ويحضرون ندوته في النقابة أو الجريدة فقط، بل إن ثمة دورا مهما لجبريل يعرفه كتاب الأقاليم؛ فقد فتح صفحته الأسبوعية بجريدة المساء لكتابتهم، ولتقديم أعمالهم، بل وتقديم تقييم شهري لهذه الكتابات التي نشرت من خلال ناقد يقرأ النصوص التي قدمتها الصفحة؛ لذا كنا نفاجأ في الندوة كل أسبوع أو أكثر بوجه معروف لنا كاسم من كتاب الأقاليم يحضر بيننا، حتى بالنسبة إلي؛ فقد سمعت بها وبالأستاذ جبريل (وكنت بعد في المرحلة الثانوية أعيش في أقصى الصعيد) ممن سبقوني إلى هناك، وأعتقد أن هذا تكرر من كثيرين غيري؛ فتوارثنا محبة محمد جبريل وندوته جيلا بعد جيل.
تغير مكان الندوة أكثر من مرة، وفي كل مرة كنا نرحل وراءها كسرب نمل يسير بانتظام إلى طريق يعرفه جيدا، أو كمسحورين يسيرون إلى حيث يشير الساحر، من مقر نقابة الصحافيين القديم في شارع الجلاء في الدور الثاني، إلى مقر النقابة الجديد في شارع عبد الخالق ثروت، مرة في الدور الثاني، ومرة في الدور الثالث، ومرة في الدور الثامن، ثم إلى مقر جريدة الجمهورية الجديد في شارع رمسيس.
كان ثمة طقس نتبعه في تلك الأيام: نلتقي عصر كل خميس في أحد المقاهي القريبة من مقر عقد الندوة، نتناقش فيما قرأنا وكتبنا، ثم نتوجه للندوة التي تبدأ الساعة السابعة. نجد الأستاذ جبريل قد سبقنا بالوصول، وجلس بكتاب في يده لم يكن يفارقه مطلقا، بل كان يحمل أكثر من كتاب في حقيبته؛ حتى إذا أنهى واحدا بدأ في الآخر مباشرة. يطلب شايا بالحليب (مشروبه المفضل) ويدعونا إلى مشروب، ثم يصر أن يدفع حساب مشروبات جميع الحاضرين كل مرة. يجول بعينيه في وجوهنا، فإذا شعر أن العدد كاف للبدء، يقرر بدء الندوة التي يستمر توافد الوجوه الجديدة عليها حتى الساعة التاسعة أو التاسعة والنصف.
كانت هناك ندوات أدبية كثيرة ثابتة تعقد في تلك الأيام، حتى في مقر نقابة الصحافيين التي نحضر فيها ندوة الأستاذ جبريل، ولأننا كنا نملك طاقة ووقتا فقد مررنا في البداية على كل تلك الندوات التي كانت تستغرق جل الأيام - كان ذلك قبل «موضة حفلات التوقيع»، والمكتبات الكثيرة التي تقيم ندوات متقطعة في وسط البلد - لكننا في النهاية قررنا أن نستقر في ندوة الأستاذ جبريل ونكتفي بها؛ لأنها كانت تتميز بأنها الأكثر انحيازا للكتابة الجديدة الشابة المتمردة؛ ففي حين كانت الأخرى يسيطر عليها الانحياز للقصيدة العمودية مثلا وتهاجم من يكتب قصيدة النثر، أو تنحاز للقصة التقليدية وتهاجم من يجرب أن يكتب شيئا مختلفا، كانت ندوة جبريل تحتفي بكل جديد، وكان الأستاذ جبريل نفسه يساعد على ذلك. ولعل أكثر ما كان يميزها هو التقارب العمري بين حضورها؛ فقد كنا جميعا - تقريبا - في أعمار متقاربة، بل إن الأستاذ جبريل نفسه كان يجلس بيننا حول الطاولة المستديرة كأنه واحد منا، بل كان في كثير من الأحيان يطلب من بعضنا إدارة الندوة ويكتفي هو بالجلوس، كما أن الأكثر أهمية هو أنه كان يرفض التدخل بالتعليق أو توجيه سير الندوة والتعليقات على النصوص المقروءة في اتجاه معين، أو فرض رأيه، أو حتى بقراءة نص له؛ إذ كان يرفض ذلك تماما، بل كان ينصت باهتمام شديد لكل التعليقات. قد يتدخل بكلمة هنا أو هناك لضبط الإيقاع كعازف ماهر، وإذا بدأ كاتب قراءة نصه رفع وجهه إلى أعلى، وأغلق عينيه، وأرهف سمعه جيدا. كان بالرغم من عمره، وبالرغم من كل ما قدمه كتابة ونقدا، يجلس بيننا كواحد منا، شديد الاهتمام بكل كلمة تقال، لا يتعالى على كاتب حتى لو كان يقرأ أول نص كتبه، يشعر كل واحد بأنه كاتب مهم، وأنه يقرأ ويقول شيئا مهما حتى لو كان مختلفا معه.
كان يتدخل في حالات نادرة؛ إذا شعر أن جميع من في الندوة قرروا مهاجمة كاتب في بداية طريقه، وأن هذا قد يشكل عقدة له، فيتدخل ليتناقش ويعطي أملا جديدا، ويطلب من الكاتب أن يحضر نصا آخر في المرة القادمة، دون أن يشعر أحدا من الحاضرين أنه تدخل، ودون أن يجبر أحدا على تغيير رأيه. كان يدخل للنقاش وللدفاع عن صوت قد يحتاج إلى من يدافع عنه في تلك اللحظة.
أعرف محمد جبريل جيدا، أعرفه ككاتب كبير وكإنسان. زرته في بيته الذي فتحه لي وللكثيرين غيري من جيلي ومن أجيال أخرى، عشرات المرات. أعرفه كزاهد في الحياة الثقافية بضجيجها ومعاركها التافهة، أعرفه كراهب اختار أن يكتب فقط، ويعيش بعيدا عن كل تجمعات القاهرة الثقافية، مكتفيا بمحبته التي منحها لأجيال كثيرة، ودوره الذي لعبه في تشكيل ثقافتهم ومحبتهم للكتابة، ومكتفيا بمحبتهم له التي تعطيه طاقة، حتى وإن لم يظهروها فهي موجودة وراسخة. المشهد الرئيسي في بيت محمد جبريل هو الكتب فقط، لدرجة أن من يزور البيت أول مرة يتخيل أن هذه مكتبة، بنيت حيطانها من الكتب، ثم وضعوا داخلها الأثاث، ووسط هذا يجلس محمد جبريل على مكتبه يقرأ ويكتب، أو على كمبيوتره يحذف كلمة أو يضيف حرفا.
Unknown page