فارتبك أركاديوس، ولم يعد يستطيع التخلص من هذه الورطة فسكت، فاستنتج زياد من سكوته أمرا حمله على زيادة التدقيق في السؤال، فعاد يستجوبه فلم يجبه، فألح عليه فأصر على السكوت، فقال له أخيرا: «إنك إن أصررت على السكوت فلن يصبك إلا الأذى فأفصح.» فلم يجب، فعجب زياد لسكوته وقال له: «لماذا لا تفصح؟ قل. أجب.» فرفع أركاديوس نظره إليه، وقد أخذ منه الغضب مأخذا عظيما، وقال: «لا أجيبك إلا إذا أخبرتني أنت عن حقيقة حالك ومن أنت؟ فإني أرى أنك لست عربيا، وما الذي تخشاه وأنا مقيد اليدين بين يديك؟»
قال: «وما ينفعك تصريحي وما يضرك، هذا ليس من شأنك، وإنما أنت أسير بين أيدينا، ولا تظن تكتمك يخفي حقيقتك فقد عرفناك، وأنا أول من عرفك.»
قال متجاهلا: «وكيف لا تعرفني وقد تسميت وانتسبت.»
فضحك زياد وقال: «أتريد أن أصدق أنك طيطوس، وأنت أعظم من ذلك بكثير. إذا أصررت على الإنكار فإن ذنبك يزداد ثقلا.»
فقال أركاديوس: «قل من أنا إذن.»
قال: «أنت أركاديوس بن الأعيرج.»
فبغت أركاديوس، وخاف العاقبة، ولكنه ابتسم مظهرا الاستخفاف، وقال: «من أين لسيدي أركاديوس أن يأتي إلى هنا وهو محاط بالأبطال، لا يخرج من معسكره إلا في المئات والألوف من الجند، ليتني كنت إياه، ولو آل ذلك إلى أن تفتكوا بي الآن.»
فانقلب شك زياد يقينا لما ظهر على وجه أركاديوس من الاضطراب وقال: «دع عنك هذا، واعلم أن أركاديوس الذي لا يخرج من معسكره إلا محاطا بالمئات والألوف قد خرج من حصن بابل وحده، وترك القوم هناك يفتشون عنه.»
فازدادت حيرة أركاديوس وخفق قلبه، وتراكمت عليه الهموم من كل ناحية، وقال في نفسه: «وما الذي أوصل هذا الرجل إلى الحصن، وهو من جند العرب؟ وكيف نجا منه؟» ثم فكر في الأمر قليلا وقال: «أستحلفك يا أخا العرب بمن تعبد أن تخبرني من أنت؟ ومن تعبد حتى أستحلفك به؟» قال: «مالك ومن أعبد؟»
قال: «أسمع أن العرب أهل عهد وذمام، وإني أبوح لك بحقيقة أمري إذا وعدتني بأن تنجز أمرا أطلبه منك.»
Unknown page