فأعجب أركاديوس بثباتها وشهامتها، وازداد تدلها بها فقال: «أتكونين في مثل هذا الثبات وتشكين في ثباتي؟! ثقي يا أرمانوسة أن هرقل وجنوده، وأهل الأرض قاطبة، لا يستطيعون مس شعرة من شعرك وأركاديوس حي يرزق، ولو علمت أن جهري بحبك الآن لا يأتيك بضرر لوقفت على قارعة الطرق وأشهرت غرامي، ولكنني رأيت من الحزم أن نصبر حتى يأتي الله بالفرج، فهل تبقين على العهد؟»
قالت: «أتسألني يا أركاديوس بعد ما رأيت وسمعت؟! أتسألني عن البقاء على العهد وقد خالفت الشرع والعرف من أجلك؟! أتسألني إذا كنت أصون عهدك؟!»
قال: «ليجمع الله بيننا، وهو على كل شيء قدير، فلنأخذ الأمر بالحزم والتروي، فإن قسطنطين لن يطمع فيك، والحالة لا تسمح بذهابك إليه ولو أراد أبوك ذلك، فإن العرب قد قطعوا السبيل على المارة، ولا بد من أن تنقضي هذه الحرب إما لنا وإما علينا، وستسمعين عن حبيبك أركاديوس ما يسرك، والله لأحاربن الروم والعرب في سبيل رضاك؟»
فأمسكت بيده قائلة: «لا تذكر الحرب ولا المحاربة، إني أخاف عليك النسيم، فكيف بالنبال والسيوف؟ وكيف تقول إنك تحارب عني؟»
قالت: «دعنا من الحرب، وهلم بنا نرحل عن هذه البلاد، بلاد المخاطر والقلاقل.»
فوقف بغتة ويده على حسامه وقال: «أتريدين أن يفر أركاديوس من وجه العدو؟! وهل ترضين به جبانا يخاف الموت؟! ولماذا هذا الحسام إذن؟!»
قالت: «لا وحبك، لا أحب الجبان، ولا أرضى أن يكون أركاديوس جبانا، ولكن قلبي لا يحتمل أن أرى أو أسمع أن الناس يرمون النبال عليك.»
فقال: «دعيني إذن وشأني والوغى، فإذا سلمت بعدها كنت أهلا لرضاك فلا تندمين على استبدالي بقسطنطين.»
فصمتت وهي تتردد بين الشهامة والحب، ولم تجب، فنهض أركاديوس عند ذلك وهو يقول: «لا بد لي يا أرمانوسة من العودة إلى أبي الآن؛ لئلا يمسني عار لتخلفي عن الحصن خلسة ونحن في حرب؛ فقد خرجت منه ولا يعلم بي أحد، ولقيت في طريقي مارية، خطيبة خادمك مرقس، وقد اختطفها اللصوص. وسمعت صوتها تستنجد المارين، فخيل إلي أن أرمانوسة في يد العدو، فأنقذتها وسرت وأنا ملثم أخاف أن يراني أحد فيعرفني، حتى جئت إلى ظاهر بلبيس، ولقيت مرقس وتعارفنا سرا، فلبست ثيابه متنكرا، وتركت جوادي وثيابي معه، وقد توسمت فيه الخير، وهو الذي أخبرني بجلية الخبر عنك، وسنعتمد عليه في المخابرة حين الابتعاد، والآن لا بد لي من الذهاب.»
فنهضت أرمانوسة ونظرت إليه وهي حزينة ولا تريد فراقه، ولكنها قالت له: «سر بحراسة الله، وها أنا ذا باقية في بلبيس لا أدري ما يكون من أمرنا والعرب قادمون إلينا.»
Unknown page