Armanusa Misriyya

Jurji Zaydan d. 1331 AH
124

Armanusa Misriyya

أرمانوسة المصرية

Genres

قال: «لا بد من خروج كل منا على حدة لئلا ينكشف أمرنا، فأذهب أنا أولا، وغدا أو بعد غد تلحقين بي، وأكون بانتظارك في عين شمس ومعي كل المعدات اللازمة، فأرسل مرقس ليأتي بك وبأهله، فنسير معا إلى حيث نريد، وليكن خروجك متنكرة.»

فعظم عليها الفراق وما وراءه من الفرار فبهتت ولم تجب، فحمل ذلك منها على محمل الحياء، ودعا مرقس، ثم ودعا أرمانوسة وخرجا، وظلت هلي في حجرتها وحيدة، وقد عظم عليها الأمر، كأنها في حلم، وعادت إليها هواجسها، وشعرت بحال والدها وما بينهما من الرابطة، وبحبه لها، فكيف تتزوج بلا علمه؟ وكيف تهجره إلى الأبد؟ وتصورت حاله بعدها، ثم تحول ذهنها إلى أركاديوس وحبها له، وما قاسته لأجله، فانشرح صدرها انشراحا أشبه بلهيب أضاء بغتة في ليل دامس ثم انطفأ، فأخذت في البكاء، وكانت بربارة في شاغل من أمر البيت، تعد معدات السفر وتجمع المتاع اللازم مما خف حمله وغلا ثمنه، فعادت إلى الغرفة لتسألها عن شيء أشكل عليها فرأتها تشرق بدموعها، فهمت بها وقالت: «ما بالك يا سيدتي تعودين إلى البكاء وقد تم لك فوق ما كنت تتمنين، فأركاديوس زوجك، وقد قيل: «ما يجمعه الله لا يفرقه إنسان»، ولم يبق لهرقل ولا ابنه سلطان عليك، لخروج البلاد من قبضته؟»

فتنهدت أرمانوسة وقالت: «آه يا بربارة! لا أدري أين هي السعادة؟! فقد كنت أحسبها في لقاء الحبيبين فقط، فلما ظفرت به، نقصتني فيه السعادة، فما أنا بسعيدة يا بربارة.»

قالت: «ولماذا؟» قالت: «أتسألينني وأنت أعلم الناس بحال أبي الذي لو فتشت قلبه وبحثت بين جوارحه لم تجدي غير أرمانوسة؛ فأنا تعزيته في أواخر أيامه. كيف يعود من تكاليف حياته غدا ولا يراني في البيت؟! ما الذي يخطر في خاطره؟ وإذا عرف بعد ذلك سر غيابي ألا يعيش بقية عمره حزينا كئيبا؟! أأرضى له ذلك؟! أليس هذا عقوقا مني؟! قد كنت يا بربارة تائهة وعلى عيني غشاوة. كان لهفي على أركاديوس وشوقي إلى لقياه قد شغلاني عن بري بأبي، ولم أكن أتوقع الخروج من بيته هربا على هذه الصورة.»

وكانت أرمانوسة تتكلم وهي تبكي، وبربارة مصغية لا تبدي حراكا وكأنها أفاقت هي الأخرى من غفلة، ولسان حالها يقول: «لقد صدقت.» فلما أتمت أرمانوسة كلامها ظلتا صامتتين برهة، ثم قالت بربارة: «وما العمل يا مولاتي؟ إن أركاديوس لا يرضى الإقامة مع أبيك بعدما ظهر له من أمر الحصن وتسليمه.»

قالت: «لا أدري يا بربارة، انجديني برأيك، فإني لا أعي شيئا.»

قالت: «دعيني أفكر في الأمر، وقومي إلى الحديقة روحي عن نفسك ونزهي طرفك، وإن غدا لناظره قريب.»

فنزلت أرمانوسة إلى الحديقة، واشتغلت بربارة بتهيئة المعدات، وهي لا ترى بدا من السفر، لعلمها أن تأخيره يحبط كل مساعيهم، وقد عولت على استرضاء المقوقس واستعطافه بعد انقضاء الحرب. •••

لم يغمض لأرمانوسة جفن في تلك الليلة لما تقاذفها من الهواجس وما تولاها من التردد، وفي صباح اليوم التالي نهضت لصلاتها المعتادة فسمعت لغطا ووقع خطوات عرفت أنها خطوات بربارة. فتوقعت دخولها عليها، وهي تدخل بلا استئذان، فلم تدخل حتى أتمت أرمانوسة الصلاة، فقالت لها: «ما وراءك يا بربارة؟» قالت: «ما ورائي إلا الخير، لقد جاء المبشرون بقدوم سيدي المقوقس الآن.»

فبغتت أرمانوسة، وكانت لا تزال جاثية تصلي، وصاحت: «جاء؟ أواه! ما الذي جاء به؟! ما العمل يا بربارة؟ إني أرتعش خوفا وازداد خفقان قلبي، وكنت قد ارتحت قليلا وأنا أصلي. لأني توسلت إلى الله وألقيت حملي عليه.» قالت ذلك واستلقت على السرير، وهي لا تدري كيف تقابل والدها. فقالت لها بربارة: «لعل الله قد هيأ لنا الخير، سكني روعك.»

Unknown page