أما عبادة فكانت في شاغل بما نالها من التعب وكانت أقل خوفا من ميمونة؛ فأسندت نفسها إلى أسطوانة ملقاة هناك من أنقاض الإيوان وقالت لميمونة: «هل ترين أحدا أم تسمعين صوتا؟»
فأصاخت بسمعها وقالت: «إني لا أسمع صوتا ولا أرى شيئا، لكن ذلك لا يمنع أن يكون بهزاد في داخل هذا البناء يبحث عن عشب أو عقار، وبما أننا وصلنا إلى هنا فلندخل الطاق فإذا لم نر أحدا رجعنا سريعا قبل أن يشتد الظلام. هل ندخل؟»
فلم تشأ عبادة مخالفتها، فمشتا وهما تجسان الأرض جسا بأقدامهما وتحاذران العثور بالأحجار أو الأشواك، وقد سكنت الطبيعة وأوت الطيور إلى أوكارها. ولما أقبلتا على باب الإيوان هابتا سعته وارتفاعه؛ فقد كان عرض فتحته 34 ذراعا وارتفاعه 32 ذراعا، ولما مرتا تحت قنطرته سمعتا هبوب النسيم وأحستا ببرده، فأجفلت ميمونة وتراجعت وشعرت كأن يدا باردة لمست وجهها فتلفتت فلم تر أحدا فابتدرتها جدتها قائلة: «ما لك يا بنية؟»
قالت : «ماذا أسمع؟ هل أسمع هبوب النسيم وأشعر ببرده؟ أم هي أنفاس الجن؟ قد كنا منذ لحظة خارج الإيوان وكل شيء هادئ، فما بالي أسمع هبوبا وأشعر بالبرد؟»
قالت: «كأنك لم تدخلي هذا الإيوان قبل الآن؟»
قالت: «كلا، وهل فيه جن؟»
قالت: «لا تخافي يا بنية، ليس في المكان جن ولا إنس، وأما ما تسمعينه فهو أصوات مجاري الهواء الخارج من جدران الطاق.»
قالت: «قد كنا بقربه الآن ولم يكن ثمة ريح، فكيف هبت سريعا على هذه الصورة؟»
قالت: «إن في بناء هذا الإيوان سرا لم ينكشف لأهل هذا العصر بعد؛ إنه مبني على هندسة تجعل الهواء يلعب في قاعته ولو كان الناس خارجه في حر شديد، فيخرج من منافذ في جدرانه مصنوعة على نمط عجيب حير مهندسي هذا الزمان. وقد تأنق الذين بنوه في صنعه على هذه الصورة حتى لا يفارق النسيم مجالس الأكاسرة في أشد الأيام حرا؛ فلا تخافي، هل نرجع؟»
وكانتا قد دخلتا الباب وأقبلتا على القاعة الكبرى التي يسمونها الطاق، ويسمون الإيوان بها فيقولون طاق كسرى كما يقولون إيوان كسرى. وكانت مساحة هذا الطاق في أيام عمارته ستين ذراعا في ستين، وقيل مائة في خمسين، وكانوا يفرشون أرضه ببساط واحد مزركش ومرصع.
Unknown page