كانت دنانير بعد ذهاب الطبيب قد أدخلت زينب إلى الفراش وسألت ميمونة إذا كانت تريد الرقاد أيضا فأجابت بأنها تؤثر البقاء للاستئناس بها وبجدتها، فأمرت الخدم بأن يعدوا لها ولعبادة طعاما فأكلتا، ولا حديث لهما غير بهزاد، وكل منهما تقص على رفيقتها ما تعرفه من غريب أطواره وأحواله، ولا سيما عبادة؛ فإنها أخذت تطري شهامته وأنفته وكرم أخلاقه، وكيف أن أهل المدائن يعدونه من الأولياء ويستغربون تكتمه. على أن التكتم زاده رفعة في أعينهم وزادهم تهيبا منه؛ لأنك لا تزال تخاف المجهول حتى تعلمه. وعلى هذا القياس ترى الصمت يرفع منزلة صاحبه وكثرة الكلام تقلل من هيبته، فإذا جهلت ما في خاطر المرء حسبت ما يكتمه شيئا عظيما، فإذا تكلم انكشف لك عن شيء تافه. والعقلاء يزين أقوالهم احتفاظهم بالكلام إلى حين الحاجة، مع تدبير ما يقولون فلا يلقون الكلام على عواهنه.
وكانت ميمونة تسمع حديثهما عن بهزاد وقلبها يرقص طربا تشعر به ولا تستطيع التعبير عنه؛ فقد عرفت هذا الشاب منذ عام وبعض العام، ورأت منه انعطاف المحسنين وغيرة الأقربين، فاحترمته وأعجبت به. ثم ألفت رؤيته حينا بعد آخر فأصبح إذا غاب استبطأته وشعرت بحاجة إلى رؤيته، ولا يطمئن قلبها إلا إذا رأته ولو مارا في الطريق. وقد زاد في ارتياحها إليه ما كانت تسمعه من إطراء جدتها له وامتداحها خصاله؛ فأصبحت إذا شاهدته أو سمعت صوته يخفق قلبها، وإذا كلمها صعد الدم إلى محياها واستولى الخجل عليها. ثم أصبح قلبها يخفق لسماع اسمه، وصارت تلتذ الحديث عنه، وإذا سمعت أحدا ينتقده أو يقبح أعماله شق عليها قوله وأخذت تدفع عنه بحماسة وغيرة.
كانت تفعل ذلك وهي لا تعلم أنها تحبه، ولو سئلت في ذلك لاستغربت السؤال وأنكرته. لا تفعل ذلك نفاقا أو رياء لكنها لم تكن تعلم أنها تحبه، خصوصا أنها لم تكن تسمع منه كلمة تدل على حبه لها. وكان إذا جاء المنزل كلم جدتها، فإذا عرضت له حياها وهو ينظر إلى شيء آخر، وربما سألها عن حالها سؤالا لا مبالاة فيه أو اكتراث، فلم يمنعها ذلك من الاسترسال في حبه؛ لأنها لم تفكر في هل تحبه أم لا، ولو فعلت ذلك لاحترست من التورط؛ لأنها لم تكن ترى منه ميلا ولكنها أحبته عفوا، وهي لا تعرف دلائل الحب.
وما زالت على ذلك حتى التقت به تلك الليلة فجأة ثم رأته يلاطف زينب ويداعبها؛ فتحركت الغيرة في قلبها مع علمها أنه فعل ذلك تلطفا ومجاملة، وأحست كأن سهما أصابها في قلبها. على أنها تراجعت وحاولت أن تقنع نفسها بأن ليس ثمة داع للغيرة فاقتنع عقلها، وأما قلبها فما زال في اضطراب. وأخذت من تلك الساعة تتساءل عن سبب هذا الشعور، فاغتنمت اشتغال جدتها ودنانير بالطعام والحديث، وطفقت تفكر في سبب هذا الشعور، وكلما همت بأن تسأل نفسها هل تحبه غلب عليها الحياء وأنكرت ذلك؛ لأنها لا ترى من أعماله ما يجرئها عليه؛ فتعللت بأنها إنما تحبه إقرارا بفضله وإحسانه.
ثم رأت ذلك لا يغني فتيلا؛ لأنها تحس بانعطاف إليه غير انعطافها إلى جدتها مثلا وهي أكثر الناس إحسانا إليها؛ فتحققت أنها تحبه لغير الإحسان. ولما تصورت ذلك ولم تر مندوحة عنه انقبضت نفسها؛ لأنها لم تلحظ منه شيئا من غير هذا القبيل نحوها. وعادت إلى ذكرى الماضي فراجعت تاريخ معرفتها به وما كان يبدو من حركاته وأقواله؛ فلم تر دليلا على أن عنده مثل ما عندها. على أنها حملت ذلك منه على رغبته في التكتم.
وهكذا كانت عبادة ودنانير تتناولان الطعام وتتحادثان، وميمونة غارقة في هذه الأفكار. وبعد الفراغ من الطعام قالت دنانير: «هل تريدان الذهاب إلى الفراش فإننا في أواسط الليل؟»
فقالت عبادة: «أما أنا فلا أشعر بالنعاس، ولكن ميمونة تنام.»
فلما سمعت ميمونة قولها تذكرت أن بهزاد وعد بألا يبطئ في العودة، وشعرت بميل إلى أن تراه قبل الرقاد، ولا سيما بعد ما ناجت به نفسها من حبه لعلها تؤانس منه إشارة أو تسمع كلمة تستدل منها على ميله إليها. فلما سمعت قول جدتها حدثتها نفسها أن تعصيها ولكنها لم تجرؤ؛ إذ لم تألف مخالفتها، فوقعت في حيرة وارتبكت في أمرها. ولحظت دنانير ارتباكها وأدركت سببه دون عبادة؛ إذ كانت لا تعلم شيئا عن عواطف حفيدتها، فلم تكن تتوقع منها غير النهوض، ثم سمعت دنانير تقول: «ما لنا وللرقاد الآن؟ دعي ميمونة معنا فإن هذه الليلة عندي من ليالي العمر لشدة فرحي بكما.» ثم مدت ذراعيها إلى ميمونة وضمتها إلى صدرها وقالت: «ولا سيما حبيبتي ميمونة؛ فإنها كنز لقيته؛ فدعيني أتمتع برؤيتها.»
فأشرق وجه ميمونة، ولما ضمتها دنانير وقبلتها أجابتها بقبلات حارة وضحكت من شدة الفرح.
فأثنت عبادة على عطف دنانير ومجاملتها. ولم يستتب بهن المقام حتى سمعن وقع أقدام الطبيب؛ فخفق قلب ميمونة ولكنها تجلدت. ونهضت دنانير لاستقباله فإذا به لا يزال بلباسه وزاد عليه كوفية اعتم بها وأرخى أطرافها حول رأسه كأنه على سفر، فابتدرته دنانير قائلة: «ما لي أرى الطبيب يهم بالسفر؟»
Unknown page