فقال الهرش: «أراك تبالغ في الكتمان يا صديقي وليس فيما أتيناه ما يوجب هذا التستر، لم يكن ثمة باعث على خروجنا إلى هنا لهذا الاجتماع.»
فقال وهو يخفض صوته: «يهمني كتم أمر الكيمياء فقط، وإني أرى للجدران آذانا وللطرق ألسنة فاعذرني!»
وركب الهرش ومشى الغلام في ركابه في طريق خراسان غربا نحو الجسر، ثم غربا جنوبيا نحو الحربية.
فلما تحقق سعدون ذهابه ركب وأدار شكيمة جواده جنوبا ثم شرقا نحو المحرم يلتمس قصر المأمون.
القصر المأموني
كان قصر المأمون على عهد قصتنا هذه في جنوبي القسم الشرقي من بغداد بعد قصر الأمين. وكان يسمى قبلا القصر الجعفري نسبة إلى جعفر البرمكي وزير الرشيد. والسبب في بنائه أن جعفرا كان شديد الشغف بالشرب والغناء، وكان أبوه يحيى رجلا جليلا ذا رأي وعقل يخاف على ابنه عاقبة هذا التهتك؛ فنهاه فلم ينته، وأوصاه بأن يستتر عملا بالحديث المأثور فأبى. فلما أعيته الحيلة فيه قال له: «إن كنت تأبى التستر فاتخذ لنفسك قصرا بالجانب الشرقي من بغداد لأنه قليل العمارة، واجمع فيه ندماءك وقيانك، لتكون بعيدا من عيون من يكره ذلك منك.»
فقبل جعفر النصيحة وأمر ببناء قصره بالجانب الشرقي وبذل في بنائه مالا كثيرا. فلما تم بناؤه سار إليه في جماعة من أصحابه فيهم صديق حكيم مخلص له اسمه مؤنس بن عمران، فطافوا القصر واستحسنوه، ولم يبق منهم أحد لم يقرظه بما يبلغ إليه إمكانه إلا ابن عمران؛ فإنه ظل ساكتا، فقال له جعفر: «مالك ساكتا لا تتكلم وتدخل معنا في حديثنا؟»
فقال: «حسبي ما قالوا.»
فأدرك جعفر أن هناك شيئا يكتمه فقال: «أقسمت لتقولن.»
فقال: «أما إذا أبيت إلا أن أقول فلك علي ذلك.»
Unknown page