فدخل الرجل متخفيا بثياب التجار، فوقف الأمين وقال له: «قل ما وراءك؟»
قال: «أأقول كل شيء؟» قال: «قل ولا تخش شيئا.»
قال: «لقيت هرثمة وعرضت عليه ما أمرتني به فقال: «السمع والطاعة.» ولكنه يرى أن يكون نزول أمير المؤمنين عنده في الليلة القادمة وليس في هذه الليلة و...»
وكان الأمين مقبلا على سماع الرسول، فلما سمع قوله أشار إليه أن يقعد وقال: «وماذا بعد ذلك؟ قل ولا تخف، ما الذي بعثه على تأجيل الذهاب؟»
فقعد الرجل وقال: «لأنه على ثقة من أن ذهاب أمير المؤمنين إليه يسوء طاهر بن الحسين، وهو قريب من هذا القصر، وإنما شدد الحصار رجاء أن يختار أمير المؤمنين الخروج بأمانه إليه فيفتخر بالفوز على يديه وله عيون مبثوثة في هذه الأطراف. وأخبرني هرثمة أنه شاهد على الشاطئ أمرا رابه؛ فهو حريص على حياة أمير المؤمنين.»
فأدرك الأمين أن طاهرا يهدده فقال: «بل أذهب إلى هرثمة. ولا بد من الذهاب الليلة لأني أصبحت وحيدا وقد تفرق عني الناس والموالي والحرس وغيرهم، ولا آمن أن ينتهي الخبر إلى طاهر فيدخل علي فيأخذني.»
ونهض وقد بان الانقباض في محياه، وأمر فجيء إليه بثياب بيض وطيلسان أسود فلبسها واعتم بعمامة خفيفة ثم أمر الغلام أن يأتيه بولديه، فوقف سعدون وسكت تهيبا واحتراما وقال للأمين: «أيأمر مولاي بخدمة أقضيها، فإن نفسي فداؤه.»
قال: «لا تفارقني حتى أخرج، إني أرى وحشة.» ثم جاءوه بولديه فضمهما إليه وودعهما وبكى وقال: «أستودعكما الله عز وجل.» ومسح عينيه بكمه ومشى إلى بغلة أعدوها له فركبها، وسعدون واقف إلى جانبه، فأشار إليه مودعا فقبل سعدون ركابه وقال: «سر في حراسة الله.» فأوصاه بأهله خيرا وخرج راكبا إلى الشاطئ، وكانت حراقة هرثمة في انتظاره هناك فنزل فيها فحول ربانها الدفة نحو الشاطئ. وكان في الحراقة هرثمة نفسه وجماعة من رجاله. فلما دخل الأمين قاموا له وجثا هرثمة على ركبتيه واعتذر إليه من نقرس في رجله، واحتضنه وضمه إليه وجعله في حجره ليؤنسه. وكانت ليلة باردة - لأنه خرج في مساء الأحد لخمس بقين من المحرم سنة 198ه، وهي توافق 28 سبتمبر سنة 863 - وأمر هرثمة النوتية أن يسرعوا في التجذيف فقد شاهد حركة على الشاطئ. وإذا بزوارق لطاهر كانت راسية هناك قد أسرعت إلى حراقة هرثمة ونقبوها ورموا فيها بالآجر والنشاب فدخل الماء إلى الحراقة فغرقت وسقط هرثمة والأمين إلى الماء فشق الأمين ثيابه وخرج إلى الشاطئ ونجا هو وهرثمة، فأركبوا الأمين حمارا وساروا به يطلبون مخبأ وهم لا يصدقون أنهم نجوا. •••
كان سلمان بعد ذهاب الأمين قد جعل همه أن يقتله؛ لأن في بقائه على قيد الحياة ما يجعل سبيلا إلى الصلح مع أخيه فلا يستفيد الفرس شيئا. فنزع عنه ثياب التنجيم وسبق الأمين إلى الشاطئ، وأخبر رجال طاهر بأن الأمين خارج الساعة إلى حراقة هرثمة فترقبوا قدومه، ولما رأوا الحراقة تتحرك أغرقوها كما تقدم، وكان سلمان معهم فنزل في جملة من نزل للبحث عن الأمين فرافق الذين فروا به إلى المكان الذي خبئوه فيه ثم رجع إلى بهزاد.
وكان بهزاد منذ وصوله إلى بغداد يحرض رجال الشيعة على الأخذ بناصر إخوانهم وفيهم جماعة الخرمية، ولكنه لم يظهر لطاهر، ولم يعلم طاهر به، على أنه كان يغتنم الفرص لمساعدة الجند كما فعل في واقعة الري، وكان نفوذه على الخرمية ببغداد عونا كبيرا لرجال المأمون حتى تضعضعت أحزاب الأمين وضعف أمره واضطر للتسليم. ولم يكن بهزاد يرى أن يأخذ الأمين أسيرا، وإنما كان همه أن يلتقي به في ساحة قتال ويبارزه ويقتله بخنجره ليتم وعده لأمه فيرجع إليها برأسه ظافرا غانما. وكان في أثناء إقامته ببغداد أو ضواحيها يجتمع بسلمان ويسأله عن ميمونة، فيطمئنه هذا لئلا يشغله داعي الغرام عن إتمام مشروعه. وإتمام هذا المشروع يهم سلمان كما يهم بهزاد، ولكن غرضه ومطمح أمله في خراسان وليس في بغداد.
Unknown page