فقال: «امكث، لا تفارقني. إني سأحتاج إليك الليلة.»
فتوقع سعدون من وراء ذلك نبأ جديدا، فنظر إلى وجه الأمين فرأى اضطرابا لم يعهده فيه من قبل، فهم بالخروج إلى بعض غرف الأضياف فأشار إليه الأمين أن يمكث، ثم صفق فجاءه غلام فقال: «إلي بالشراب وأنر الشموع.» فلما خرج الغلام نزع الأمين عمامته عن رأسه وزفر زفرة سمع لها دوي وقال: «يلومونني على الشراب، وماذا يفعل اليائس في مثل هذه الحال؟ إن الشراب ينفس الكرب ويذهب الغم حتى يقضي الله بما يشاء.»
أما سعدون فجلس متأدبا محتشما، ثم جاء الغلمان بمائدة الشراب والفاكهة وأناروا الشموع الكبيرة المعروفة باسم الأمين، فصاح الأمين بالغلام قائلا: «هل عمي إبراهيم هنا؟» يريد إبراهيم بن المهدي المغني.
قال: «كلا يا مولاي.»
فأشار إليه أن يملأ له قدحا، ثم أخذه وأشار إليه أن يملأ قدحا آخر وقال لسعدون: «ألا تشرب يا ملفان؟»
قال: «إذا أمرني أمير المؤمنين أطعته، ولكنني لم أذقها قبل الآن والشراب لا يتفق وصناعتي.»
فقال الأمين للساقي: «دعه لا تسقه؛ إننا في حاجة إلى علمه وصناعته الليلة، وإذا جاءنا رسول فأوص صاحب بابنا أن يوصله إلينا حالا ولو في نصف الليل.»
فازداد سلمان رغبة في استطلاع ما يضمره الأمين، ولبث ينتظر ما يبدو منه، فشرب الأمين بضعة أقداح وسري عنه، فالتفت إلى سعدون وقال: «أتدري لماذا استبقيتك هنا دون سواك؟» قال: «كلا يا سيدي.»
قال: «لو أردت لكشفت سري لبعض خاصتي، ولكنني أصبحت لا أثق بأحد من أهل بطانتي بعد أن تكشفوا لي عن أعداء في ثياب الأصدقاء، وما منهم إلا من يطمع في مالي، ويكفيك مثلا منهم وزيري سبب هذا الخصام بيني وبين أخي؛ فإنه لما رأى اشتداد الأزمة خاف على حياته واختفى ولم يبال ما يهددني، وهكذا فعل كل رجال دولتي؛ فإنهم بقوا معي حتى أنفقت أموالي وبعت جواهري وآنيتي، فلما فرغت يدي تخلوا عني. وشدد الأعداء الحصار علينا فمنعوا الأقوات عنا.» وكأنه خاف أن تبدو جهشة بكائه فتناول قدحا وفاكهة يتشاغل بهما، وأعطى سعدون بعض الفاكهة وهو يقول: «ومن كان هذا شأنه مع رجال بطانته كيف يرجى فلاحه؟»
فاستبشر سعدون من شكواه وتحقق سقوط دولته، ولكنه تظاهر بالاستغراب وقال: «لا ييأس أمير المؤمنين، إن الله ناصره فليتوكل عليه.»
Unknown page