فلما سمع سؤالها انقبضت نفسه وقال: «قريبا إن شاء الله.» ولم يزد وكأنها شعرت برغبته عن التوسع في هذا الموضوع، فأمسكت ونظرت في الأرض وهي لا تستطيع التعبير عن شعورها؛ وهو شأن النساء في أحكامهن، فإنها مبنية على الإحساس بقطع النظر عن الحكم العقلي، فإن المرأة إذا سألتها عن عمل أنت عازم على الشروع فيه هل هي تتوسم فيه النجاح أو تخاف الفشل أجابتك عن رأيها، وإذا طالبتها بالدليل على صحته ذكرت أنها لا تستطيع ذلك ولكنها تشعر به شعورا قويا. ويغلب أن يصدق شعور المرأة كما يصدق عقل الرجل، على تفاوت في شعور النساء وعقول الرجال. فكما تتفاوت عقول الرجال من حيث قوة الاستنتاج واستنباط الأحكام وتمييز الصحيح من الفاسد، يتفاوت شعور النساء باختلاف ما فطرت عليه كل منهن من دقة الإحساس وسلامة الذوق. ولا يكون هذا الشعور مستقلا عن العقل، ولكنه يغلب في المرأة كما يغلب العقل في الرجل. والرجل إذا جرد من ذلك الشعور كان ضربة على الإنسانية؛ لأن الإنسان يعامل عملاءه بالعقل ويعاشر أصدقائه وأهله بالإحساس. ويتفاوت الإحساس في الناس؛ فمن قل إحساسه ساءت عشرته واستثقل الناس روحه وإن كان راجح العقل قوي الإرادة؛ ولذلك ترى بين جماعة من الأذكياء المجتهدين من يستثقلهم الناس ويتجنبون معاشرتهم، فيكون ذلك عثرة في سبيل نجاحهم؛ لأن الإنسان يحتاج في اكتساب ثقة الناس إلى شعور حي يجتذب قلوبهم بحسن العشرة ووضع الشيء موضعه.
وكانت زينب بنت المأمون - على صغر سنها - كبيرة العقل رقيقة الشعور، فما إن سمعت تلك الإجابة الجافة من عمها الأمين حتى شعرت بانقباض وامتنعت عن الخوض في ذلك الحديث. وكأنما أدرك هو ذلك فصفق يدعو غلامه، فلما جاءه قال له: «ادع لنا قيمة الجواري.» ولما جاءت هذه قال لها: «خذي ابنة أخينا إلى قصرنا، وأكرمي مثواها واحتفظي بالجارية ميمونة وعامليها معاملة جوارينا.» ثم التفت إلى زينب وقال لها: «أظنك تحتاجين إلى الراحة والطعام، ولن يكون إلا ما تريدين، فاطمئني.» وربت على كتفها ووقف، فوقفت ومضت مع القهرمانة إلى دار النساء.
فلما خلا الأمين إلى نفسه عاد إلى التفكير فيما سمعه عن الفضل وكتابه إلى بنت أخيه وفي شأن تلك الفتاة، وأحب أن يستقدمه ليسأله عن حقيقة الخبر، على أنه تذكر ما كان فيه من الأنس قبل مجيء زينب، فعاد إلى مجلسه. ولم يكد يستقر فيه حتى عاد إليه من كانوا فيه واستأنفوا الغناء والشرب والمنادمة، والغلمان والجواري في خدمتهم كما كانوا. •••
تركنا الفضل خارجا من مجلسه وهو يستعيذ بالله مما آل إليه أمر تسرعه في طلب ميمونة، وأخذ يهيئ الأعذار للدفاع عن نفسه، معتمدا على ما له من النفوذ والدالة لدى الأمين، ولبث ينتظر أن يدعوه إليه.
أما سعدون أو سلمان، فإنه مع أسفه لوقوع ميمونة في يد الأمين، سر لنجاحه في إغراء الفضل وابن ماهان بتوسيع الخرق بين الأمين وأخيه. وأصحاب المطامع السياسية لا يفهمون لغة القلوب ولا يبالون حركاتها، وإنما يهمهم الوصول إلى الغرض الذي يسعون إليه، فإذا اعترض طريقهم رأس أو قلب داسوه، على أن سلمان كان يعرف منزلة الفتاة عند بهزاد، وقد أوصاه هذا بها خيرا، فلم يسعه إلا أن يهتم لأمرها ويعمل على سلامتها.
وفي صباح اليوم التالي بعث الأمين إلى الفضل، فلما وافاه في داره الخاصة أجلسه إلى جانبه، ثم تلطف في الاستفهام عن أمر الفتاة. فقال الفضل: «لعل أمير المؤمنين أكبر إقدامي على طلب هذه الفتاة باسمه من بيت أخيه، ولكن لم أفعل ذلك إلا اضطرارا وإخلاصا في خدمة الدولة. هل عرف أمير المؤمنين من هي هذه الفتاة؟»
فقال: «لم أعرف إلا أنها غريبة وفدت على بيت أخي المأمون.»
قال: «لو أن مولاي تأملها لرأى صورة أبيها فيها. إنها بنت جعفر بن يحيى الذي قتله أمير المؤمنين الرشيد جزاء خيانته!»
فبغت الأمين ونظر إلى الفضل مشدوها وقال: «ابنة جعفر بن يحيى؟ أظنك واهما.»
قال: «كلا يا مولاي، ولو سألتها لاعترفت. وقد علمت بنزولها بيت مولانا المأمون صباح أمس، فكتبت إلى قهرمانة القصر أن ترسلها لأن أمير المؤمنين يريد أن يراها، فأجابت رسولي الشاكري جوابا شديدا. ولم يسعني غيرة على كرامة مولاي إلا أن شددت في طلبها، ولم أكن أحسب العلائق وطيدة إلى هذا الحد بين طرائد أمير المؤمنين وبين بيت أخيه؛ فالأجدر بأهل هذا البيت أن يكونوا عونا لنا على أمثال هؤلاء. نعم إنها فتاة لا خوف منها، ولكن ما ضر أن نستفهمها وهناك أسباب للظن، ولكن ...» وسكت كأنه يكتم شيئا يخشى إبداءه، فابتدره الأمين قائلا: «ولكن ماذا؟ قل.»
Unknown page