Amal Wa Yutubiya
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
Genres
77
ولا شك أيضا أن الأمر مع النصوص الهيجيلية السابقة ليس بالبساطة التي نتصورها، ومجرد الظن بأن فيلسوف الجدل الأكبر مفكر «رجعي» و«محافظ» و«سكوني» و«عدو للتغيير» ... إلى آخر هذه الأوصاف التي يحتدم حولها الأخذ والرد، لا يعفينا من القول بأن المشكلة أعقد مما تبدو عليه حتى من نصوص الفيلسوف نفسها. وهل يمكن أن يصدق الأوصاف السابقة من يتذكر مقدمة «ظاهريات الروح» الذي يرجع كما هو معلوم لتاريخ سابق (1807م) على تأليف علم المنطق (1812-1816م) وموسوعة العلوم الفلسفية (1817م) التي يقول فيها: «ليس من الصعب أن نرى أن عصرنا هو عصر الميلاد والانتقال إلى مرحلة جديدة. لقد قاطع العقل عالم وجوده وتصوره الذي عاش فيه حتى الآن، وعقد العزم على إسقاطه في الماضي وعلى العمل على تشكيله تشكيلا مختلفا.»
78
ولعل هيجل - كما يرى بلوخ - لم يستخلص النتائج الخطيرة المترتبة على هذا النص الفريد، ولم يتبين مثلا أن العصر الذي يكون في حالة المخاض أو الميلاد لا بد أن يكون كذلك هو التربة التي ينمو فيها الممكن الواقعي ويتخلق على مهل حتى «يولد» ثم ينضج ويتحقق، وأنه حينما يكون العمل على التغيير أو التشكيل بصورة مختلفة عن الأشكال الماضية فلا بد بطبيعة الحال أن «يكون إمكان التشكيل» أو القدرة عليه، وإمكانية تقبل التشكيل شيئا يزيد عن كونه «تجريدا أجوف للتأمل في ذاته» كما عبر عن ذلك في نص سابق، ولذلك فربما لم يظلمه بلوخ عندما قال إن منطق الإمكان و«أنطولوجياه» قد سحقهما وهم السكون أو الثبات الذي أدى به إلى الزعم بأن كل ما هو ممكن في مجال الواقع قد تم تشكيله وانتهى الأمر، وكأنما هو السنبلة التي نمت حباتها أو قطع الشطرنج الساكنة بعد انتهاء اللعب. والحقيقة الجدلية أو على الأصح المادية الجدلية تكذب زعم هيجل، فتفسير العالم التفسير الصحيح يؤكد أنه في صيرورة مستمرة ولا تنتهي أبدا، وأن المهم هو تغييره وليس الاكتفاء بتفسيره فحسب (على حد تعبير ماركس وإنجلز المشهور في كتابهما عن الأيديولوجية الألمانية). ولذلك يمكن القول بأن تغيير العالم القابل للتغيير أو المسكن التغيير إمكانا واقعيا، هو جماع «النظرية والممارسة» بالنسبة للإمكان الواقعي الذي يتطلب تحقيقه في العالم بفضل كفاح الإنسان. بهذا ينتهي اغتراب الإمكان الواقعي عن نفسه في الفلسفات التأملية السكونية والمثالية الذاتية. لأن هذا الاغتراب هو المشكلة الحقيقية للعالم، وهو العائق الرئيسي الذي يحول دون تحقيق الوحدة بين الوجود والماهية، وبين المظهر والحقيقة.
79 (3) تحقيق الإمكان
الإنسان كائن ينتظره الكثير ولم يزل أمامه الكثير. وهو ما زال يتشكل بصور مختلفة من خلال عمله، ويجد نفسه على الدوام وجها لوجه أمام الحدود التي يدرك أنها لم تعد حدودا ثابتة، وأن عليه أن يتخطاها لما وراءها. إن «الشيء الحقيقي» - في نفسه وفي العالم - لم يتحقق بعد، ولم يزل معرضا للتلف والضياع، أو منتظرا على أمل النجاح. ذلك أن «الممكن» يمكن أن يؤدي للوجود، كما يمكن أن يفضي إلى العدم. ومعرفتنا بشروط تحقيقه الفعلية أو شعورنا بنضج هذه الشروط شعورا يبلغ حد اليقين أو على الأقل أقصى حدود الاحتمال هو الذي يجعل منه ذلك الإمكان الواقعي الذي تحدثنا عنه. وإذا لم تتدخل مبادرة الإنسان وشجاعته في «اللحظة الممتلئة» المناسبة، فسوف يبقى هو والإمكان في حالة تأرجح بين الخوف والرجاء. فهل فطن الرواقيون إلى ذلك عندما نصحوا الإنسان بأن يبتعد عن الأوضاع التي لا يمكنه السيطرة عليها، أم كان هذا نوعا من الحكمة المتعالية التي تمسكوا بها في أصعب المواقف والظروف وكانت - برغم شجاعتها - حكمة سلبية يائسة؟
مهما يكن الأمر فإن قدرة الإنسان على الفعل عنصر أساسي من عناصر الإمكان، كما أن شجاعته ومبادرته إلى هذا الفعل تزيد من احتمالات الأمل في تحقيق الإمكان، وتقلل من احتمالات الهروب إلى اليأس أو العدم، ولا شك أن الشجاعة التي نقصدها هي الوسط بين نقيضين متطرفين: التهور البطولي من ناحية، والجبن المتخاذل من ناحية أخرى، وإذا فهمناها فهما جدليا فلا بد أن تكون هي الشجاعة التي تأتي «بتوسط» الشروط الواقعية التي بلغت مرحلة النضج ودرست علاقتها بالسياق التاريخي والاجتماعي دراسة فاحصة دقيقة. وحينئذ يكون تدخل الإنسان «ممارسة» لا تنفصل عن النظر، ونظرا لا يكتمل إلا بالممارسة.
80
ولا شك أن الإخلال بشروط هذه الممارسة المكافئة لإمكانات الواقع أو لواقع الإمكانات «يمكن» أن تؤدي - وقد أدت بالفعل - إلى ألوان عديدة من «خيبة الأمل» منذ أن تعلم الإنسان الثورة على الواقع القائم ومحاولة تغييره من جذوره. لقد استمرت بطبيعة الحال عملية الصيرورة التاريخية والمادية التي لا تنتهي أبدا، ولكن «النظر والممارسة » الإنسانيين لم يستطيعا - في رأي بلوخ - نقل «الأمل» أو «الإمكان الواقعي» إلى مرحلة التحقق، ويعني به «تطبيع الإنسان وأنسنة الطبيعة»، ولم يستطع كذلك بلوغ «أرض الأحلام» التي يتجسد فيها «كل» الإمكان من خلال التوسط التاريخي والعيني، لا من خلال التمنيات والأحلام الخيالية ولا من خلال اليوتوبيا المجردة. لقد أصبح الزمان - بعد ماركس - هو المجال التاريخي الذي يتم فيه الصراع الجدلي-المادي الذي يشمل العالم والإنسان، كما أصبح بعد المستقبل هو مجال الإمكانات الواقعية الكامنة فيهما والمتطلعة دائما إلى التحقق المادي والعيني بجهد الإنسان وعمله، هذا الإنسان الذي يلخص تطور تلك الصيرورة الكونية، وتتفتح فيه أروع زهراتها، كل ذلك بالعمل الذي صار به الإنسان إنسانا، وبالثورات التي كانت وستكون «القابلة» التي تساعد على ميلاد مجتمع المستقبل الذي يحمل الحاضر في أحشائه «جنينه» أو إمكانه الواقعي.
81
Unknown page