Amal Wa Yutubiya
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
Genres
56
ومع ذلك فإن تاريخ الإنسان في صيرورته الواقعية حتى الآن قد تخلله على الدوام أو تغلغل فيه الإمكان الواقعي الجوهري بصور متزايدة تفوق صوره الخادعة أو السطحية، بل إن صور هذا الإمكان كانت تتألق بين الحين والحين على حافة المسيرة البشرية. وأبسط دليل على هذا هو «اليوتوبيات» الاجتماعية كلها على وجه التقريب التي انعكست عليها أشعة الأمل بصور مختلفة، كما تجلت من الناحية النفسية في صور التمني والحلم بالمستقبل، ومن الناحية «الأخلاقية» في «المثل العليا» الإنسانية، ثم تجلت من الناحية «الجمالية» في العديد من «الرموز» الطبيعية والموضوعية. فأما صور التمني والحلم بالآتي فقد ظل مضمونها هو «إمكان» الحياة الأفضل، وأما المثل العليا فكان مضمونها هو الوجود الإنساني الكامل بقدر الطاقة، والعلاقات الاجتماعية الأكمل مما هي عليه في الواقع؛ ولهذا بقيت (أي المثل العليا) في كل الظروف والأوضاع نماذج يحتذيها الإنسان ويسعى إليها
57 (ومن أهمها وأسماها فيما يرى بلوخ نموذج الإنسان في ظل المجتمع الخالي من الطبقات الذي ظل يحلم به قبل انهياره الأخير بعد وفاته بحوالي ثلاثة عشر عاما).
وأخيرا فإن «الرموز» توحي دائما من بعيد بإمكان الوحدة المفتقدة بين الوجود والماهية في الطبيعة، وإزالة اغتراب الإنسان عن حقيقته الجوهرية (خصوصا على نحو ما صورها ماركس الشاب في المخطوطات الاقتصادية الفلسفية عام 1844م) ولما كان مضمون الرموز هو الإيحاء بالممكن والدلالة على شفرات معانيه، كان الرمز دائما أكثر غموضا وخفاء من المثال، كما كان أكثر منه قدرة على الإشارة إلى وحدة الماهية الأساسية التي تكمن وراء إيحاءاته ومعانيه المتعددة. ولهذا تلاقت الرموز الأصيلة دائما حول معنى مركزي أو ماهية أساسية وصفت عبر التاريخ (لاسيما بتأثير الأديان) بأنها هي الواحد والحق والخير، ولأن مضمون الرمز بعيد عن الظهور والتحقق، فقد بقي من الناحية الواقعية والموضوعية مجرد شفرة توحي بالممكن ولا تحدده. والمهم في نهاية الأمر أن يعكس التعبير الرمزي في الأدب أو الفلسفة ذلك الإمكان الواقعي والكلي الذي تحدثنا عنه، وأن يوحي على طريقته بمسافة البعد الفاصلة بين «ظهوره» و«تحققه»، ويشير إلى «وحدة» معناه وراء المعاني الغامضة والمتعددة التي تنبعث منه، وبذلك يكون - إذا صح هذا التعبير - رمزا واقعيا ولا يفقد مضمونة الصلة بواقع العالم والإنسان بالهروب إلى المستحيل أو الافتتان بسحر الكلمات وألاعيبها المضللة. ولا شك في أن الرموز والتمنيات والأحلام التي فاضت عن الوعي أو اللاوعي البشري في تاريخه الطويل قد حاولت على اختلافها أن تعبر عن «نماذج المعنى» الكامنة فيما سميناه الوجود الذي لم يتحقق بعد، كما حاولت الاقتراب من ذلك «الكلي» الذي يتحدد عنده المظهر والحقيقة، والوجود والماهية، ويتجه إليه النزوع الكامن في المادة والوعي اتجاهه إلى الأمل البعيد وغير المستحيل.
58
والملاحظ أن بلوخ يظل هنا أسير عقيدته الماركسية المتزمتة على الأقل من ناحية الهدف لا من ناحية السبل والطرق الموصلة إليه. فهو يصوغ هذا الأمل البعيد في تحقيق الماهية الكلية في الصيغ الماركسية المعروفة مثل «تطبيع الإنسان وأنسنة الطبيعة»، والقضاء على اغتراب الإنسان عن الطبيعة والعكس، «والتصالح بين الموضوع والذات والضرورة والحرية». ولن يتحقق الأمل في هذا الإمكان الواقعي إلا بتوسط الجدل الفعال والتفاؤل المناضل بعالم أفضل. (2) مقولة الإمكان وموقف بعض المناطقة والفلاسفة منها
ما أكثر ما لم يتم الوعي به في شعور الإنسان! وما أكثر ما لم يتحقق بعد في العالم! وعلى الرغم من التسليم بأن ال «ليس-بعد» حقيقة حية في كل ما هو حي فينا أو حولنا، فإن مقولة الإمكان قد عانت من سوء الحظ ولم تدرس دراسة كافية لا على المستوى الأنطولوجي ولا على المستوى المنطقي. لقد ظلت على الدوام محيرة من الناحية المنطقية، ولم تتحدد بصورة حاسمة كما حدث لغيرها من المفاهيم؛ ولذلك أهملتها الأنطولوجيا أو نظرية الوجود إهمالا يكاد أن يكون تاما، واقتصر ذكرها في المنطق - أو كاد - على كتب المنطق الصوري، وحتى عندما تتعرض نظرية المقولات للممكن فيما يوصف بمقولات الجهة، فإنها تقتصر على تحديد نوع المعرفة بالموضوع، ونادرا ما تتطرق إلى تحديد الموضوع نفسه. إن مقولة الجهة
59
تشير من ناحية الأحكام إلى درجة اليقين في الحكم أو إلى طريقة الربط بين الموضوع والمحمول في الحكم. ومقولات الجهة كما حددها كانط هي الإمكان والواقع والضرورة، وتناظر مقولة الجهة جهات الحكم التالية: الحكم الإشكالي أو الاحتمالي، الحكم التقريري، والحكم اليقيني. والإمكان أو الاحتمال - عند كانط - يعبر عن حالة التردد أو التوقف عن الحكم، لأن معنى الاحتمال هو أني لا أستطع أن أضيف صفة المحمول إلى الموضوع، كما أنني لا أستطع بيقين نفيها عنه، فأنا متردد بين السلب والإيجاب، وهذا لا يكون حكما، فحالة الاحتمال إذن هي حالة توقف في الحكم. أما إذا كان الحكم معبرا عن إمكان الخروج عن قانون طبيعي ضروري فهذه الحالة تكون حالة احتمال أو إمكان، فالجهة فيها الاحتمالية فإذا تصادف ووجدت غربانا مختلفة الألوان عما نألفه، فإن هذا ممكن الحدوث، ويكون حدوثه مخالفا لقاعدة مطردة فيما يتصل بألوان الغربان السود دائما ، فالإمكانية هنا تعبر عن إمكان الخروج عن قاعدة كشواذ لهذه القاعدة.
60
Unknown page