80

Amal Wa Yutubiya

الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ

Genres

ولكن هذا التفسير المادي - المتأثر بغير شك بالأفلاطونية المحدثة - لفكرة أرسطو عن الوجود بالقوة أو بالإمكان

dynamei on

قد تراجع تراجعا شديدا مع سيطرة النزعة المادية الآلية أو الميكانيكية، وسيادة العلم الطبيعي ومناهجه الكمية والقياسية التي أخذت منذ عصر النهضة الأوروبية إلى منتصف القرن التاسع عشر في استبعاد النزعة الحيوية ونفي التفسير الغائي من دائرة العلم. وقد مهدت الفلسفة المدرسية (الاسكولائية) لهذا التراجع عندما استبعدت مفهوم المادة الأرسطي كما استبعدت مفهومها عند الفلاسفة السابقين لسقراط (وهو المفهوم الذي يشير إليه ضمنا جوردانو برونو في عبارته السالفة الذكر) وكانت النتيجة أن تحول الإمكان الواقعي إلى واقع كمي إحصائي، وأصبحت المادة كتلة غليظة بلا تاريخ، ودخلت العالم في القرن التاسع عشر (على حد تعبير عالم الفيزياء جون تيندال

John Tyndall

1820-1893م) دخول الشحاذ الذي سلبه اللاهوتيون المتشددون حق الميلاد، أي صارت منذ البداية شيئا متجمدا. إلى أن دخل المفهوم الأرسطي للمادة أو الإمكان الواقعي - وهو الذي لم تنقطع تطوراته وتحولاته على يد الفلاسفة الذين سبق ذكرهم ولدى غيرهم حتى ليبنتز (1646-1716م) على أقل تقدير - في المادية الجدلية التاريخية، فتشابك فيه العامل الذاتي أو الإنساني، مع نضج الشروط الواقعية باطنية كانت أو خارجية، وتحول الكم - حسب منطق الطفرة الجدلية - إلى كيف، وإلى حتمية التغير الجذري ... إلى آخر هذه «اللحظات الجدلية» التي لم يكن من الممكن أن تتلاءم مع التصور الآلي والكمي الجامد والأحادي للمادة. وبذلك أمكن أيضا أن نخرج من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية، وأن تتلاقى فيه الأطراف الثنائية المتباعدة (كالطبيعة والمستقبل، والمادة والتوقع، والواقع والحلم)، وأصبحت المادة عملية صيرورة غنية ومنفتحة على إمكانات التغيير «الواقعية» التي تكمن بذورها فيها، أو بالأحرى على «الجديد» اليوتوبي ، «والكل»

The Totum

المأمول.

55

لم يعد من الممكن إذن أن تستقر المادة - أو على الأصح الإمكان الواقعي - في الأنطولوجيا السكونية المغلقة للوجود بما هو موجود، فقد اهتدت، بعد عناء البحث الطويل، إلى وطنها الحقيقي في أنطولوجيا جديدة تحتاج باستمرار إلى تأسيس جديد من جهة الزمان والمكان معا، وأعني بها «أنطولوجيا الوجود» الذي لم يوجد بعد، والذي يكتشفه «الوعي بالمستقبل» في الماضي نفسه وفي تاريخ الطبيعة بأسرها، كما يصبح المكان هو «بعد الأمام» أو التقدم المستمر لحركة المادة الجدلية التي تطبق عليها مقولة الإمكان الواقعي وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك بعد أن نظرنا إلى المادة وخصائصها نظرة مستقبلية؟ وهل يستقيم تصورنا للواقع والواقعية إن جردناهما من بعد الانفتاح على المغاير والجديد؟ ولكن كيف نفهم هذا «الجديد» و«الكلي» الذي يكمن في بذور الإمكان الواقعي ويتفتح باستمرار على المستقبل؟ وإلى أين تندفع إمكانات المستقبل المفتوح على الطفرات اللانهائية لعملية الصيرورة الجدلية الدائبة؟

إن الإمكان الذي تحدثنا عن بذوره المتفتحة للنمو والتطور، هو كذلك «الجذر» و«الأصل» الذي تنبثق عنه الظواهر والصور على اختلاف مستوياتها ومضامينها، فيسقط منها ما يسقط من قشور غير أصيلة ولا جوهرية، ويبقى ما يبقى من إمكانات واقعية تنزع باستمرار إلى المزيد من الأصالة والجوهرية والواقعية. ويضرب بلوخ مثلا حيا على ذلك «بالإنسان العامل» الذي هو في رأيه «جذر» الصيرورة البشرية نحو الإنسان «المثالي » الذي سيعيش في المجتمع الخالي من الطبقات، أو في «الوطن» الحق الذي تتجه إليه مسيرة المادة والوعي معا عبر تاريخها الطويل. هذا الإنسان - الذي هو معرض للتحولات خلال تاريخه الماضي وسوف يتعرض للمزيد منها خلال تاريخه الآتي - قد بدأت بذرة تطوره وتقدمه على طريق المستقبل عندما بدأ يسير منتصبا على قدميه. لقد كان هذا السير المستقيم هو البذرة الأولى التي انطوت فيها الاستقامة الكاملة منذ البداية، أي الاستعداد الكامن لتحقق مملكة الحرية، وهو الاستعداد الذي طالما تحقق عبر التاريخ بصور واقعية جزئية في العديد من الثورات الواقعية والجزئية أيضا حتى يصبح المجتمع الخالي من الطبقات حقيقة تجسد الإمكان الكامن في تاريخ الإنسان حتى الآن. ومهما تكن طبيعة هذا التجسد الواقعي، فسوف تظل علاقته «بالكلي» النهائي الكامن في الإمكان علاقة جوهرية، أي أنها ستظل هي العلاقة الجدلية القائمة بين المظهر والحقيقة، أو بين الوجود والماهية، ذلك لأن العملية الجدلية - إذا فهمت على حقيقتها - تستبعد تحقيق «الكلي» مع تحقق المجتمع الخالي من الطبقات، لأن الإنسان في ظل هذا المجتمع لن يكف ولن تتوقف مسيرته المندفعة نحو الوضع (أو الحالة) التي يتحد فيها المظهر والحقيقة، والوجود والماهية.

Unknown page