Amal Wa Yutubiya
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
Genres
48
والمهم أن الشرطين يظلان في حالة تفاعل دائب، مهما أصابهما من نقص أو ضعف، على الطريق إلى «الإمكان الموضوعي» الذي يتوقف على الأمرين معا: قدرة الإمكان الداخلي الفعال على تحقيق «التغيير» و«قابلية» الواقع أو استعداده لهذا التغيير، أي باختصار لإمكانية الفعل القادر على التغيير، وإمكانية الصيرورة نحو التغير في ظروف العصر والبيئة والمجتمع المواتية.
ويتضح مما سبق أن الشكل الأساسي للإمكان الإيجابي الفعال يتوقف على قدرة العوامل الذاتية أو البشرية، وهذه العوامل البشرية لا تستطيع بدورها أن تحقق شيئا بغير العوامل الموضوعية والخارجية المرتبطة والمتفاعلة معها والتي تكون في حالة انتظار لمن يحركها ويوجهها إلى التغيير الذي يؤتي ثماره. وهكذا تتكشف مقولة الإمكان الموضوعي - إذا تحققت لها الشروط السابقة - عن تدخل الإنسان لتغيير الواقع أو العالم الذي يقبل التغيير، كما تتكشف هذه المقولة عن مفهوم «الخلاص » أو «الأمل» نفسه. أما عدم نضوج هذين الشرطين أو أحدهما فيمكن أن يفسح المجال للتغيير الزائف، ويكشف عن مفهوم اللعنة أو الكارثة واليأس المدمر بدلا من مفهوم الخلاص والأمل. وما أكثر ما حدث هذا مع الثورات الزائفة التي قامت بها نظم القمع والاستبداد سواء في عصرنا الحاضر أو في العصور الماضية مع اختلاف أشكالها باختلاف السياقات التي تمت فيها. ومع العلم أيضا بأن عدم نضوج الشرطين اللذين تحدثنا عنهما - وهو يمثل العنصر السلبي في الإمكان الموضوعي - يمكن أن يتدرج صعودا أو هبوطا من كارثة الطغيان المطلق إلى كارثة يسببها حادث تصادم بين سيارتين أو قطارين. كما أن نضوجهما يمكن من ناحية أخرى أن يتراوح بين الحظ السعيد الذي يمكن أن يصيب إنسانا، «ومملكة الحرية» التي تتقدم في التاريخ بوصفها إمكانية تحقيق المجتمع الاشتراكي. مع العلم أيضا بأن الحالة الأولى يمكن أن تخضع للصدفة العرضية المباشرة التي تقع على هامش العملية الجدلية، أما الثانية فتنمو وتبلغ النضج بحكم الضرورة الجدلية والموضوعية الكامنة في عملية الصيرورة التي تتم في باطن المادة والوعي، وفي الطبيعة والتاريخ بحكم القوانين الجدلية ذاتها (على غرار التفرقة التي نجدها في الفقرة 250 من موسوعة العلوم الفلسفية لهيجل، حيث يفرق تفرقة دقيقة بين الصدفة العرضية والضرورة الجدلية التي تحتوي على «الإمكان الموضوعي» المفتوح والكامن في الصيرورة الجدلية نفسها على النحو الذي صوره بلوخ وفسره كما رأينا وفقا لفلسفته اليوتوبية في الأمل والخلاص عن طريق تحقيق الاشتراكية) هذه القوانين الجدلية التي لا تستبعد الصدفة على المستوى الأعلى، وهو مستوى الخلق والإبداع الذي يحقق تنوع الإمكانات الموضوعية وثراءها بصورة قد تبدو للنظرة السطحية وكأنما تحمل طابع الصدفة أو المفاجأة، مع أنها تكمن في طبيعة التوسط الجدلي الذي يبدع الجديد باستمرار، ويتعارض مع الصدفة العارضة تعارضه مع الضرورة العمياء على السواء. ولن تدرك النظرة السطحية ذلك حتى تتعمق العملية الجدلية وما تنطوي عليه من إمكانات موضوعية مفتوحة على آفاق التجدد والتغيير على المستويين المادي والإنساني.
49 (د) الإمكان الواقعي في الواقع نفسه
The Objectively-Real possible
كل ما قيل عن الإمكان حتى الآن يمكن أن يبقى مجرد كلام عقيم لا يتمخض عن نتيجة ملموسة، ولا يتولد عنه تغيير حقيقي فعال، فلا يكفي تبرير الإمكان من الناحية المنطقية والشكلية، ولا ترجيحه من الناحية الموضوعية، بل لا يكفي القول بأنه إمكان مفتوح تقتضيه الشروط الداخلية والخارجية للموضوع نفسه. إن هذا كله يمكن أن يبقيه في دائرة التمني والاحتمال إذا لم يكن له أساس في الواقع المادي، وإذا لم يستطع أن يحدد هذا الواقع تحديدا مستقبليا ينبع من الواقع ويدفعه ويوجهه نحو تحقيق الأمل «العيني المحدد». وينقلنا هذا إلى طبقة أخرى من طبقات مقولة الإمكان، ونقصد بها الإمكان الواقعي، وليس هذا الإمكان الواقعي إلا المادة نفسها، هذه المادة التي تظهر كل الأشكال الكامنة في رحمها بفضل الصيرورة الدائبة فيها، ولو سئل على سبيل المثال لتوضيح ما هو الإنسان لكانت الإجابة: الإنسان هو الإمكان الواقعي لكل ما صار إليه هذا الإنسان خلال تاريخه كله، ولكل ما يمكن أن يصير إليه بحكم التقدم الذي لا حدود لآفاقه وإمكاناته. وهي إمكانات لم تزل أبعد ما تكون عن النضوج، فلم يستهلكها هدف وصلت إليه، مهما جل هذا الهدف، ولم تستنفد في مرحلة مرت أو تمر بها، مهما بالغنا في عظمة هذه المرحلة. ذلك أن الإنسان ليس مجرد شجرة استنفدت كل جهدها في مد الأغصان وإنضاج الثمار، وإنما هو المجموع الكلي لشروطه وإمكاناته الداخلية والخارجية التي لم تصل بعد إلى النضج النهائي الأخير ولن تصل إليه أبدا.
50
بهذا المفهوم الشامل للإمكان الواقعي الذي نسميه المادة يمكن أن نفهم فكرة «الوجود بالقوة» أو «الوجود - في حالة - الإمكان» التي حدد بها أرسطو مفهوم المادة. ويستحق هذا المفهوم أن نذكر به ونتتبع تطوره في هذا السياق باختصار شديد، قبل أن نرجع إليه بشيء من التفصيل فيما بعد عند التعرض «لأنطولوجيا» المادة. فإذا كان هيراقليطس في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي هو أول من أدرك وجود التناقض في الأشياء نفسها، فإن أرسطو هو أول من تعرف إلى الإمكان الواقعي (dynamei on)
في مادة العالم: «كل ما يصير في الطبيعة أو الفن له مادة، لأن كل ما يصير فهو قادر (أو لديه إمكان
dynaton ) على أن يكون وألا يكون، وكل ما يمكن أن يكون ولا يكون فإنما هو المادة في كل شيء.»
Unknown page